• رمضان في تونس
    رمضان في تونس


تقرير: هبه الحسيني

يحظى شهر رمضان الكريم في تونس بأجواء متميزة ومختلفة، فهو يجمع بين العادات والتقاليد المميزة للمجتمع التونسي، وبين الممارسات الدينية والروحانية التي يحرص عليها التونسيون طوال الشهر الكريم لما له من مكانة روحية عميقة في نفوسهم.
ولرمضان في تونس نكهة خاصة، حيث يعتبره العديد من التونسيين شهر "اللمات" العائلية وفرصة مثالية لتوطيد العلاقات الأسرية، فهو طريق العائلة إلى تناول الإفطار حول مائدة واحدة بعد أشهر من التشتت بين العمل والدراسة، كما أنه مناسبة جيدة للتزاور واللقاءات وصلة الرحم، وفي أحيان كثيرة للخطوبات والأفراح.
وتقول مريم زروق، صاحبة محل تجاري بمنطقة "لافاييت" وسط تونس العاصمة، إن "لمة العائلة والأصدقاء في رمضان هي أهم ما يميز هذا الشهر الكريم، لذلك فأنا أحرص على إغلاق محل عملي في وقت مبكر في أيام رمضان لأتمكن من إعداد الإفطار وتناوله مع أسرتي كما أنني أفضل دعوة عائلتي وعائلة زوجي للإفطار جميعا مرات عديدة أسبوعيا وإعداد أشهى الأطباق الرمضانية" مضيفة أنه "لارمضان من غير لمة العيلة".
وتبدأ الاستعدادات الرمضانية قبل قدومه بعدة أيام، حيث يحرص التونسيون على طلاء الجدران والأسقف بألوان مضيئة، وتنظيف البيوت، وشراء المستلزمات المختلفة من أوان فخارية والطواجن وأغطية السفرة، كما تنشط الأسواق التجارية التي تفوح بمزيج من روائح التوابل والحبوب والتمور.
وفي" ليلة القرش"، أي الليلة التي تسبق أول أيام رمضان، تحرص الأسر التونسية على إعداد الحلويات والتي تختلف أنواعها من منطقة لأخرى، فمثلا في تونس العاصمة يعد التونسيون طبق "الرفيسة" وهو عبارة عن أرز مطبوخ مع تمر وزبيب، أو "المدموجة" المكون من ورقات من العجين المقلي المفتتة والمحشوة بالتمر والسكر.
أما في شمال غرب تونس، وفي المناطق الريفية على وجه الخصوص، تعد العائلات طبق "العصيدة" بالدقيق والسمن والعسل، وفي الوسط الشرقي تصنع الفطائر بالزبيب، بينما يفضل سكان الجنوب الصحراوي "البركوكش"، وهو عبارة عن دقيق غليظ الحبات يطبخ بمجموعة من الخضراوات الطازجة.
ويستهل التونسيون إفطار رمضان بترديد عبارة "صحة شريبتكم"، التي تعني بالصحة والعافية.. ثم يفتتح الإفطار عادة، بتناول بعض التمور التي تسمّى في تونس "الدقلة"، وخاصة النوع الذي تشتهر به تونس "دقلة النور" مع كوب من اللبن.
وبداية من اليوم الأول للشهر الكريم، تحتوي مائدة الإفطار التونسية على أكثر من وجبة من أشهر الأكلات التقليدية، ومن الملاحظ أنه لا يتم تكرار نفس الوجبة كل يوم عدا وجبتي "الحساء والبريك" وهما من الأكلات الموروثة منذ آلاف السنين.
و"البريك" عبارة عن فطائر تصنع من أوراق الجلاش، وتتشابه مع السمبوسة، ولكنّها فطائر كبيرة الحجم تحشى بالدجاج أو اللحم في مختلف المناطق مع إضافة البقدونس والجبنة والبصل.
وتقول سعاد العباسي، ربة منزل، إن "البريك من أكثر الأكلات التي لا يمكن الاستغناء عنها خاصة خلال الشهر الفضيل، فأولادي وأحفادي يحبونه، وأنا اعتدت على تناوله منذ صغري في منزل عائلتي وهو من أشهى المأكولات الرمضانية بالنسبة لنا في تونس، لذا فأنا أحرص على تنويع مكوناته لإرضاء جميع الأذواق، فأحيانا أعده باللحم وأخرى بالدجاج أو بالجمبري".
وبعد تناول “البريك” يأتي دور الحساء وخاصة "حساء الفريك" باللحم أو الدجاج، ثمّ تأتي الأطباق الأساسية الأخرى من الخضروات واللحوم المختلفة، والتي تطبخ في تونس عادة بزيت الزيتون.
ومن الأطباق الشعبية الأخرى التي توجد على مائدة الإفطار التونسية ، "الطواجن" بأنواعها المختلفة، و"الطاجن" طبق شعبي مميّز وتختلف صناعته من منطقة لأخرى وهو عبارة عن كيك مالح يصنع من الجبن الرومي أو الموزاريلا مع البيض والبهارات وبعض الخضروات وأنواع من اللحوم وتمتزج كل هذه المكونات وتُخبز في الفرن. ولا يمكن أن تخلو المائدة التونسية من طبق السلطة التي تتنوع ما بين سلطة مشوية وسلطة خضراء.
وقبل الإمساك عن الطعام بفترة قصيرة، يتناول التونسيون أكلات تساعدهم على تحمّل الصوم، خاصة في فصل الصيف، منها "البسيسة" وهو طحين يخلط بالماء والزيت، و"المسفوف" الذي يتكوّن من الكسكسي المعدّ بالبخار، تضاف إليه قطع من التمر وأحيانا المكسّرات، مع إضافة كمّيات مناسبة من اللبن.
وللخبز عند التونسيين مكانة خاصة خلال الشهر الكريم، فاستهلاك الخبز يتم بشكل يومي ويدخل في كل الوجبات الغذائية دون استثناء، لذلك يحرص أصحاب المخابز على تنويع أصناف وأشكال الخبز المٌحلى بحبات "البسباس" و"حبة البركة"، كما تغيّر أكثر المحلات من بضاعتها لتعرض موادا غذائية خاصة بهذا الشهر مثل "الملسوقة" وهي ورقات من العجين تستخدم لتحضير "البريك" والحلويات.
وتشتهر الأحياء العريقة في تونس العاصمة ببيع أنواع من الحلويات التقليدية الرمضانية التي تعرف بها تونس مثل “الزلابيا” و”المخارق” وهي من مشتقات القمح والعسل والسمسم، كما يعد “المقروض القيرواني” و”البوظة ” و”المهلبية” و”الصمصة” من أشهر الحلويات التقليدية إلى جانب انتشار صنع القطائف التي أخذ التونسيون سر صناعتها من دول الشام وتركيا.
وتحلو السهرات الرمضانية على المقاهي التونسية العامرة التي يلتقي فيها الأصدقاء، حيث تقدم أكواب الشاي بالصنوبر، وتعم رائحة القهوة العربية التونسية المعطرة بنكهة ماء الزهر.
ومن العادات التي لا تزال حاضرة في تونس، "المسحراتي" أو الملقب في تونس بـ "بوطبيلة" الذي وعلى غرار العديد من الدول العربية، يجوب الأحياء وينادي الناس للسحور عن طريق النقر على طبله، وهو ما يضفي جوا روحانيا خلال الشهر المبارك.
وتحظى ليلة نصف رمضان، أو ما يسميها التونسيون باللهجة العامية "ليلة النص"، بمكانة متميزة داخل كل بيت تونسي، كذلك ليلة السابع والعشرين من هذا الشهر والتي تسمى "الموسم"، حيث يجري لهما مظاهر احتفالية خاصة، وتعد أطعمة مميزة على مائدة الإفطار، وهو "الكسكسي التونسي"، الذي هو رمز من رموز الاحتفالات والأفراح، وعادة يقدم بوعاء خاص يسمى "التبسي" وهو إناء فخاري كبير يحتوى على زخارف جميلة بألوان مختلفة بعضها أحمر والآخر أزرق.
كما تقام في هذه الليالي حفلات الخطبة، ويقوم البعض بشراء الذهب استعدادا لحفلات الزفاف وإهدائها للعروس.
وطوال شهر رمضان، تفوح روائح العنبر والبخور من منازل التونسيين. وتنظم العائلات سهرات "السلامية" احتفالا بالشهر الفضيل، و"السلامية" عبارة عن مجموعة من المطربين ينشدون على ضربات الدف مدائح للرسول - صلى الله عليه وسلّم – أو تردد بعضًا من أشعار الصوفيين، وهذه الاحتفالات تقتصر على الرجال فقط.
كما يحرص التونسيون على حضور المهرجانات الثقافية والعروض الفلكلورية خلال الشهر الكريم، حيث تشهد المدن الكبرى حركة وأنشطة ثقافية مكثفة، وعادة لا تخلو واجهة المدينة العتيقة في تونس من عروض فلكورية مثل "بوسعدية" والعروض القائمة على الألعاب النارية والفرق التراثية.
وتنظم مدينة الثقافة بتونس العاصمة "مهرجان المدينة" وهو مهرجان رمضاني، يتضمن عروضًا غنائية تتنوع غالبًا بين المألوف التونسي والموشحات الأندلسية والغناء الصوفي المدحي.
ومن العادات البارزة في تونس ، أن رمضان فرصة لتجديد وترميم المساجد، حيث يتم تنظيفها وتبييضها وإصلاح ما يتخللها من أعطال، حتى تظهر في أحسن حلة لاستقبال جموع المصلين في هذا الشهر الفضيل. ويتسابق التونسيون عقب الإفطار لأداء صلاة التراويح، ومواكبة مجالس الذكر والدروس الدينية، وتلاوة ما تيسر من القرآن، فيما تنظم السلطات التونسية ما يزيد على 400 مسابقة لحفظ القرآن الكريم في كافة مساجد البلاد.