• رمضان
    رمضان


كتب: حسام ابراهيم
مابين حي السيدة زينب وحي الحسين تتجلى القاهرة الرمضانية بمدد الايمان وفيض الحب لآل البيت النبوي الكرام ، وتتخذ تلك المساحة في ارض الكنانة أبعادا فريدة في شهر الصوم والقيام بقدر ما تكشف عن معاني ثقافة المكان الرمضاني البهيج.
وهنا "مابين السيدة والحسين" تهل أنوار رمضان مبكرا وحتى قبل حلول الشهر الفضيل ، فيما تقترن تلك المنطقة في الوجدان العام ونبضات القلوب والتماعات العقول للمصريين بل والعرب ككل بالفرحة الرمضانية ومفرداتها البهية وهي التي شرفت بأهم اعتاب آل البيت الكرام في القاهرة المعزية.
وحي السيدة زينب ينتسب ككل لشرف المسجد الشهير الذي يحمل اسم حفيدة سيدنا رسول الله وابنة علي بن ابي طالب كرم الله وجهه متوسطا الحي فيما تتفق عدة مراجع تاريخية على ان مسجد السيدة زينب بني عام 1547 الميلادي واصبح من اشهر المساجد في القاهرة بل والعالم الإسلامي ككل.
وإذ يستقبل حي السيدة زينب القاهري افواجا من البشر من كل مكان خلال شهر رمضان حيث يكتسب الحي طابعا رمضانيا فريدا وبهيجا فان لحي السيدة أيضا معالمه الثقافية الرمضانية مثل "الحديقة الثقافية" التي ينظم فيها المركز القومي لثقافة الطفل برنامجا مكثفا يبدأ اليوم "السبت" باحتفالات تتضمن فعاليات ثقافية وفنية متنوعة للأطفال بعنوان :"اهلا رمضان".
والحديقة الثقافية بحي السيدة زينب أمست علامة من علامات الليالي الثقافية الرمضانية بفعاليات ثقافية وفنية متعددة كما تحتضن " العديد من الفرق الفنية التابعة للهيئة العامة لقصور الثقافة لتقدم ابداعاتها بهذا الحي القاهري العريق والذي يتخذ زينته كأبهى ما يكون في شهر رمضان الفضيل فيما تحرص العديد من الأسر على الإفطار او السحور "بموائد الطاهرة وفي الأجواء الروحانية العذبة لهذا الحي القاهري".
ويحق أيضا لكيان ثقافي اخر هو "بيت السناري" التابع لمكتبة الأسكندرية ان يفخر بانتسابه لحي السيدة زينب في موقعه على بعد خطوات من مسجد السيدة وهو الذي يضم "صالون أم هاشم" حيث تعقد ندوات وفعاليات ثقافية فيما عرف أيضا بتنظيم ليال رمضانية تتجلى فيها جماليات التلاوة المصرية للقرآن الكريم.
وفي السنوات الأخيرة ، شهد ميدان وحي السيدة زينب عملية تطوير شاملة في اطار ما وصف "بخطة لتطوير ابنية وميادين القاهرة" فيما يتردد عشاق القراءة والكتب القديمة على "سور السيدة زينب" الذي يعد من أماكن الكتب ذات المكانة والذكريات في الوجدان العام للمثقفين المصريين الذين عرفوه كما عرفوا سور الأزبكية.
ولم يكن من الغريب أن يحظى حي السيدة زينب بمكانة عزيزة في ابداعات كتاب كبار مثل المبدع الراحل توفيق الحكيم حيث اتخذت روايته الشهيرة "عودة الروح" من حي السيدة زينب القاهري مسرحا لها وكذلك فعل يحي حقي في روايته "قنديل ام هاشم".
فحي مؤثر في ثقافة المكان كحي السيدة زينب لابد وان يكون ملهما لابداعات مثقفين مصريين كبار كيحيي حقي أحد رواد القصة العربية الذي ولد في السابع من يناير عام 1905 في بيت يقع "بدرب الميضة" وراء "المقام الزينبي" ليقدم هذا الأب الثقافي المصري الذي قضى في التاسع من ديسمبر عام 1992 روائع مثل "قنديل ام هاشم" و"ام العواجز" فيما بلغ مرتبة "الأديب الفنان" شأنه في ذلك شأن توفيق الحكيم الذي ولد في الأسكندرية يوم التاسع من أكتوبر عام 1898 وقضى بالقاهرة في السادس والعشرين من يوليو عام 1987.
وشأنه شأن "حي السيدة زينب الشقيق" فان حي الحسين بطابعه الرمضاني المتفرد يولد أروع المشاعر وأكثرها عذوبة في قلب الانسان" ، ويعادل حي الحسين فرحة الشهر الفضيل بالنسبة لكثير من المصريين والعرب والأجانب وهم في رحاب وعبق هذا الحي القاهري مابين المسجد الحسيني والجامع الأزهر وخان الخليلي.
هنا في "الحسين" الانس المتجدد دوما ليبدد المخاوف والوحشة والنور الذي يبدد كل عتمة وينسج بخيوط الزمن العميق حكاية مصرية فريدة في العلاقة بين الانسان والمكان ، وهنا حيث "الزمن العميق" في حي الحسين الذي يعد بحق درة تاج ثقافة المكان القاهري الرمضاني لم يكن غريبا ان يختاره امام الدعاة الراحل الشيخ محمد متولي الشعراوي محلا للإقامة عبر سنوات طويلة من حياته في القاهرة وان تتدفق خواطره وتنثال رؤاه وتفسيراته القرآنية في ظلال المشهد الحسيني وتلك البيئة الايمانية لهذا الحي القاهري ككل.
وحي الحسين أشبه "بجامعة كبرى" لا يمكن ان يفلت من تأثيرها من عاش فيها واحبها وانتمى اليها خلال فترة اساسية من العمر كما حدث مع "النوبلي نجيب محفوظ" وهكذا كان من الطبيعي ان يؤثر هذا الحي القاهري في ادب نجيب محفوظ .
وذلك التأثير واضح كل الوضوح في "المرحلة المحفوظية" التي يسميها النقاد باسم " المرحلة الواقعية" فكثير من اسماء رواياته مستمد من بيئة الحسين مثل "خان الخليلي" و"زقاق المدق" و"بين القصرين" و"قصر الشوق" و"السكرية" وكلها اسماء شوارع وازقة في حي الحسين انتقلت الى عالم نجيب محفوظ الروائي الذي رفع راية الحسين فأصبحنا نشم رائحة هذا الحي ونكاد نرى خريطته الجغرافية والانسانية معا.
وطريف ان يسعى بعض الباحثين في التاريخ الثقافي المصري لاجراء مقارنات بين حي الحسين الآن وحي الحسين عندما كتب نجيب محفوظ رواياته بالهامات هذا المكان الفريد وان يلاحظ البعض مثلا التغيرات التي طرأت على "خان الخليلي" الذي لم يعد حيا سكنيا كما تناوله محفوظ في روايته التي تدور احداثها في مستهل سنوات الأربعينيات من القرن الماضي واعوام الحرب العالمية الثانية.
فخان الخليلي بات منطقة تجارية تكتظ بالمحال والبازارات والمخازن اكثر بكثير من طابعه الذي تناوله النوبلي نجيب محفوظ كحي سكني وان بقت النكهة الفريدة للمكان بمقاهيه ووجوهه الطيبة وانسه الذي يصل لذروته في شهر رمضان الكريم.
فهنا في حي الحسين القاهري تهفو القلوب لمسجد أقيم منذ عام 1154 ومعطر بعطر المصطفى وبعض آثاره الشريفة ومقتنياته الحبيبة في "الغرفة النبوية" بالمسجد الذي يحمل اسم سبط النبي الكريم "الحسين بن علي بن ابي طالب" فيما يتاخم الجامع الأزهر الذي يحتفل غدا "الأحد" بعامه التاسع والسبعين بعد الألف وخان الخليلي وتحمل ابوابه أسماء موحية "كالباب الأخضر" كما يضم مكتبة في جهته الشرقية.
وذاكرة حي الحسين القاهرية "ذاكرة رمضانية فوق العادة" بقدر ماتحول هذا الحي القاهري لعلامة متروبوليتانية لمدينة لها حضورها الكوني وعشاق حول العالم فيما يتجلى "التنوع" في فعاليات الليالي الرمضانية الثقافية مابين الشعر والحكي والموسيقى والانشاد الديني والمديح النبوي في "بيت السحيمي" و"قصر الأمير طاز وفي "قبة الغوري" بشارع الأزهر، تستمر فرقة التنورة في تقديم عروضها أيام السبت والأثنين والأربعاء من كل أسبوع حتى نهاية الشهر الكريم.
ولرمضان حكاياته المبهجة دوما في "شارع المعز" في قلب القاهرة الفاطمية بتجلياته الثقافية المتنوعة والمتعددة ومن بينها الأمسيات الشعرية فيما امسى شارع المعز لدين الله تحفة للناظرين وبهجة للساهرين بين جنباته التي تعود للعصر الفاطمي والبيوت والأسبلة والوكالات التجارية العتيقة ليكون حي الحسين ككل علامة رمضانية مصرية بامتياز بحلقات الانشاد الديني والمقاهي ومشغولات الحرفيين المهرة.
واذا كانت كثرة من ورش صناعة الفوانيس تتمركز في احشاء وعلى اطراف حي السيدة زينب ، فان حي الحسين بدوره يعرف الصناعات التراثية الإبداعية وفي الخانات "كخان جعفر" توجد ورش لصناعة السبح اليدوية ناهيك عن المشغولات الذهبية والفضية.
وفي تلك المنطقة القاهرية العتيقة ومحيطها عاشت رموز ثقافية خالدة في الذاكرة المصرية والعربية مثل شيخ المؤرخين المصريين في العصور الوسطى تقي الدين المقريزي الذي انحدر من اب لبناني الأصل ينتمي لمدينة بعلبك وام مصرية وقد ولد في "حارة برجوان" بمنطقة الجمالية في القاهرة المعزية.
وباستقراء تاريخي فان اكبر تجمع للشوام كان حول مناطق القاهرة الفاطمية في "الحمزاوي الكبير والصغير وخان الخليلي والمشهد الحسيني والغورية والجمالية وخط امير الجيوش والخرنفش وباب زويلة وباب النصر وباب الفتوح وبين القصرين".
ومنذ نهاية القرن التاسع عشر ، ظهرت الكتابات الحديثة حول احتفالات مولد الحسين في كتاب "الخطط التوفيقية الجديدة" الذي وضعه "علي باشا مبارك"وبقدر ما نشأت الليالي الرمضانية في الحسين وتطورت متفاعلة مع الشخصية المكانية والثقافية لهذا الحي القاهري فانها تعيد تشكيل المكان فيما القمم العالية لمآذن المسجد الحسيني تكللها حبال من الأضواء الملونة وتنساب حبال الأضواء من المسجد باشراقات فوق الشوارع والأزقة وتضاريس البنايات والأناشيد الايقاعية للذكر الصوفي في محيط الاحتفال بالليالي العطرة.
ومن هنا لايكاد "رمضان المصري يكتمل عند الكثيرين الا بقضاء ليلة في الحسين" ، حيث تتوافد الجموع على المسجد الكبير في المنطقة التي شرفت باسم الحسين وباتت ساحته الحافلة بالرموز الثقافية وبديع المعمار والحوارات الجمالية والروائع التراثية تحمل عبقا مصريا بالغ الخصوصية شأنها شأن حي السيدة زينب.