• معاهدة القوي النووية متوسطة المدي
    معاهدة القوي النووية متوسطة المدي
  • توقيع معاهدة القوي النووية متوسطة المدي
    توقيع معاهدة القوي النووية متوسطة المدي


القاهرة .. تحليل: أحمد تركي (مركز أبحاث ودراسات الشرق الأوسط)
ضربة قوية لاستقرار الأمن العالمي ، يمثلها إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، انسحاب واشنطن ابتداء من الثاني من فبراير الحالى من معاهدة القضاء على الصواريخ المتوسطة والقصيرة المدى الموقعة مع روسيا عام 1987 خلال الحرب الباردة، وإعلان وزير خارجيته مايك بومبيو أن واشنطن ستقوم بإلغاء هذه المعاهدة إذا لم تعد روسيا إلى الامتثال الكامل والقابل للتحقق من المعاهدة خلال فترة ستة أشهر.
وتفتح هذه الخطوة الأمريكية الباب واسعا والآفاق أمام احتمالات وقوع سباق تسلح ونذر حروب جديدة قد تطال معظم القوى العالمية المؤثرة في موازين وهيكل النظام العالمي.
يعكس رد الفعل الروسي السريع حدة التوتر في العلاقات بين البلدين، إذ نددت روسيا بقرار الولايات المتحدة، قائلة إنه جزء من "استراتيجية" واشنطن للتنصل من التزاماتها الدولية. وأعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، أن روسيا سترد على قرار واشنطن بالمثل وتقوم بتعليق مشاركتها في هذه المعاهدة، مشيراً إلى أنه ينبغي على روسيا ألا تنجر إلى سباق التسلح باهظ التكاليف بالنسبة لموسكو وهي لن تنجر إليه، موضحا أن كافة الاقتراحات التي تقدمت بها روسيا في مجال نزع السلاح تبقى مطروحة على الطاولة والأبواب مفتوحة، إلا أنه طالب في الوقت ذاته بعدم الشروع في أي مفاوضات حول هذه القضية مستقبلا.
من جانبه أكد وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف، أن موسكو لا تسعى إلى سباق التسلح، وإنما سترد بالوسائل العسكرية والتقنية على التهديدات الناشئة عن انسحاب الولايات المتحدة من معاهدة الصواريخ المتوسطة والقصيرة المدى.
وقال لافروف: "نحن لا نسعى إلى سباق التسلح، الذي كان سمة حقبة الحرب الباردة، وقد قال الرئيس ذلك بوضوح شديد. وسنرد بالتأكيد بالوسائل العسكرية والتقنية للتهديدات، التي تنشأ نتيجة الانسحاب الأمريكي من معاهدة الحد من الأسلحة النووية".

وتمثل معاهدة القوى النووية متوسطة المدى أول اتفاق على الإطلاق يتوصل إليه الجانبان حول نزع السلاح النووي وخطوة كبيرة إلى الأمام للحد من سباق التسلح. وأثارت الخطوة الأخيرة من جانب واشنطن المخاوف من منافسة محتملة مستقبلا في مجال الأسلحة التقليدية والنووية بين الدول.
يُشار إلى أن معاهدة القوى النووية هي اتفاقية أُبرمت بين الولايات المتحدة وروسيا "الاتحاد السوفييتي سابقاً" في واشنطن، وقعها الرئيس الأمريكي رونالد ريجان والزعيم السوفييتي ميخائيل جورباتشوڤ، في 8 ديسمبر 1987، وتم التصديق عليها من قبل مجلس الشيوخ الأمريكي في 27 مايو 1988 ودخلت حيز التنفيذ في 1 يونيو من العام نفسه.
وبموجب المعاهدة، تعهد الطرفان بعدم صُنع أو تجريب أو نشر أي صواريخ بالستية أو مُجنّحة أو متوسطة، وتدمير كافة منظومات الصواريخ، التي يتراوح مداها المتوسط ما بين 1000-5500 كيلومتر، ومداها القصير ما بين 500─1000 كيلومتر.
وعلى الرغم من التصريحات المنددة والرافضة للإجراء الأمريكي، إلا أنه يأتي اتساقاً مع النزعة الأحادية والعسكرة المتصاعدة للسياسة الخارجية الأمريكية، بالإضافة إلى تراجع تأثير مصالح الحلفاء الأوروبيين على قرارات الإدارة الأمريكية في مقابل تصاعد تأثير لوبي السلاح على توجهاتها الخارجية.
وجاء القرار الأمريكي على خلفية اتهام الولايات المتحدة موسكو بخرق بنود هذه الاتفاقية، حيث صرح الرئيس "ترامب" في أكتوبر 2018 بـ "أن روسيا تنتهك منذ سنوات عديدة معاهدة الأسلحة النووية متوسطة المدى"، ورأت روسيا أن هذه مجرد مزاعم تفتقد إلى أدلة، وكان "أوباما" قد اتهم روسيا في عام 2014 بانتهاك المعاهدة بعد إعلان الولايات المتحدة أنها أطلقت صاروخاً مبرمجاً، بيد أنه لم يقم بالانسحاب من المعاهدة خشية اندلاع سباق تسلح جديد.

"الأمن والاستقرار العالمي"

لا شك أن الانسحاب الأمريكي من معاهدة القوى النووية متوسطة المدى سيكون له تداعيات سلبية على موازين الأمن والاستقرار العالمي، إذ تؤكد الدراسات السياسية المتخصصة في العلاقات الدولية، ووفقاً للنظرية الواقعية الجديدة التي تفترض أن الاضطراب في النظام الدولي يرتبط بالتغير في توزيع القوة ، فإن وجود دولة قوية غير راضية عن الوضع الراهن للنظام الدولي ممثلة في الولايات المتحدة، تمتلك من القدرات المادية ما يعزز التصورات لدى قيادتها بإمكانية فرض واقع عالمي جديد، وهو الأمر الذي تسعي إليه الإدارة الأمريكية الترامبية، في مقابل القوى الكبرى التقليدية ممثلة في روسيا ، تسعى لمنع هذه القوة المتحدية "واشنطن" من تغيير توازن القوى، وهو ما يؤدي ـ وفقاً لأستاذ العلاقات الدولية روبرت جلبن- إلى تفجر "حروب الهيمنة".
وقد يكون للقرار الأمريكي تأثيرات متباينة على منظومة الأمن العالمي وعلى بقية الاتفاقيات الموقعة بين واشنطن وموسكو في مجالات الأمن والتسلح، فقد أثار القرار تساؤلات حول مصير معاهدة خفض الأسلحة الإستراتيجية الجديدة (ستارت) التي سينتهى سريانها في عام 2021.
في هذا السياق ، تعد معاهدة "ستارت" اتفاقية أخرى لنزع السلاح وقعتها واشنطن وموسكو في عام 1991 وعقب انتهاء سريان معاهدة ستارت الأصلية في عام 2009، قام الجانبان بتجديدها في عام 2010. وعندما سُئل وزير الخارجية الأمريكي بومبيو، عما إذا كانت الولايات المتحدة مستعدة لبحث تمديد معاهدة ستارت الجديدة، تجنب بومبيو الإجابة بشكل مباشر، وقال فقط "إن واشنطن مستعدة للدخول في أي اتفاقيات "تصب في المصلحة العليا لأمريكا".
وتشير دراسات سياسية إلى أن الوضع العالمي الناشئ عن الانسحاب الأمريكية من معاهدة القوى الكبري، يخلق حالة من اختلال التحالفات العالمية الخاصة بالقارة الأوروبية، بسبب المخاوف من اختلال توازن القوى التي تعمل على تهديد الأمن الأوروبي، خاصة أن أوروبا هي المستفيد الأكبر من هذا الاتفاق، وفي حالة الانسحاب الأمريكي منه واعتباره هو والعدم سواء، ستعاود الصواريخ الأمريكية تهديها لبعض الدول الأوروبية، وتحديداً بعد شيوع حالة من التوتر في العلاقات بين أمريكا وأوروبا خلال الفترة الأخيرة.
فضلاً عن أن تعليق الولايات المتحدة التزامها بمعاهدة القضاء على الصواريخ المتوسطة والقصيرة المدى اعتبارا من الثاني من فبراير الجاري ، وبدء فترة عد تنازلي مدتها ستة أشهر تقود إلى انسحاب أمريكي دائم، وخروج الولايات المتحدة من معاهدة الصواريخ المضادة للباليستية عام 2002، وعدم الرغبة الأمريكية في تجديد اتفاقية ستارت التي تنتهي في عام 2021، تكون بذلك كافة المعاهدات التي تحد من التسلح والتي أُبرمت لإنهاء الحرب الباردة قد ألغيت، وهو ما يعني عودة سباق التسلح من جديد.
يبقى القول أن الانسحاب الأمريكي من معاهدة القوى النووية، سيكون مرتبطاً بتسوية ملفات إقليمية في الشرق الأوسط مع روسيا، وتغيير المعادلات في المنطقة بما يحقق الاستراتيجيات الأمريكية الجديدة في المنطقة، حيث تعمد واشنطن إلى التصعيد والوصول بالأمور إلى حافة الهاوية، ثم تفتح للخصوم فرصة للتفاوض وفقًا لشروطها وبما يلبي طموحاتها السياسية والاقتصادية والأمنية.