• خريطة سوريا
    خريطة سوريا


القاهرة .. أحمد تركي (مركز أبحاث ودراسات الشرق الأوسط)
بات المشهد السوري بعد قرار الرئيس الأمريكي ترامب في التاسع عشر من ديسمبر الجاري، بانسحاب القوات العسكرية الأمريكية من سوريا، مثار تساؤلات وتحولات استراتيجية عميقة، لما لهذا القرار من تداعيات خطيرة على موازين القوى الفاعلة في مشهد الأزمة السورية.
إن الانسحاب الأمريكي المتسارع من شأنه أن يترك بصماته على المشهد المتأزم أصلا ، وأن يكون له وقع مختلف على شتى الأطراف الفاعلة على الأرض في سوريا والتى قد تتنافس لحصد امتيازات جديدة، لاسيما مع عدم وجود اتفاق مسبق ، مما ينذر بنشوء صراع متصاعد فى ظل وجود قوى تعتبر نفسها الخاسر الأكبر من القرار المفاجئ.
وقد خلق القرار الأمريكي فراغا جيوإستراتيجي لا يمكن التنبؤ بحجم تداعياته، ويشير إعلان ترامب أن المهمة الأمريكية في سوريا انتهت بنجاح ( حين قال إنه "تم سحق تنظيم الدولة الإسلامية" وتعهد بعدم المشاركة بالضربات الجوية على داعش ) إلى رغبة واشنطن في قلب الطاولة وخلط الأوراق فى سوريا بين لاعبين دوليين وإقليمين تتباين أجنداتهم ومصالحهم، الأمر الذي سيضطرهم إلى إعادة ترتيب أوراقهم، وهو ما انعكس بشكل واضح في مسارعة الرئيس الإيراني حسن روحاني إلى أنقرة، في 20 ديسمبر الجاري، ولقائه الرئيس التركي أردوغان لبحث مستجدات الأوضاع بعد يوم واحد فقط من قرار ترامب.
وإذا كان قرار الرئيس ترامب قد أحدث هزة قوية في السياسة الداخلية الأمريكية، تمثلت - حسب رأي بعض المراقبين - في استقالة كل من وزير الدفاع الأمريكي جيم ماتيس من منصبه وكذلك المبعوث الأمريكي بريت ماكغورك للتحالف ضد تنظيم "داعش" في العراق وسوريا، كما أثار القرار جدلاً كبيراً من قبل حلفاء الولايات المتحدة الأمريكية. إلا أن التأثيرات القوية للقرار ستكون منصبة على حدود وفاعلية القوى المتدخلة في الأزمة السورية، وتحديداً إيران وروسيا وتركيا من جانب، وعلى قوى الأزمة السورية من جانب آخر.

"قوى مستفيدة من قرار ترامب "

وثمة تداعيات أخري مؤثرة في المشهد السوري جراء القرار الأمريكي بالانسحاب، حيث أن هناك قوى مستفيدة منه وأخرى خاسرة، وتأتي تركيا في مقدمة الدول المستفيدة، فتركيا التي تعتبر بلا شك أحد أطراف الصراع الجاري في المنطقة، فهي لم تكن ضمن قائمة الحلفاء أو قائمة الأعداء، وحقيقة كونها عضواً في حلف شمال الأطلسي "الناتو" جعلها طيلة السنوات الماضية تحت رحمة المساومات، خاصة فيما يتعلق بمسألة الأكراد، عدو تركيا الأول. وتعتبر واشنطن الداعم الرئيس للفصائل الكردية في الشمال السوري منذ عام 2015 وبعد إعلان الانسحاب سوف تتخلى عن مصير الشعب الكردي في سوريا الذي يواجه التهديد المستمر من قبل تركيا، ولم يخف الرئيس التركي نواياه بتدخل عسكري في الشمال السوري.
وتسعى تركيا لإقامة مشروعها الخاص فى شمال سوريا تحت غطاء محاربة وحدات الحماية الكردية، عصب قوات سوريا الديمقراطية التي تصفها بأنها إرهابية وتمثل امتدادا لحزب العمال الكردستاني، وقامت بالفعل عبر عدة عمليات مثل درع الفرات وغصن الزيتون بالسيطرة على العديد من المدن والبلدات السورية فى الشمال مثل جرابلس وعفرين وغيرهما، وبالتالي يسهم الانسحاب الأمريكي فى إغراء أردوغان بالمزيد من التوسع باقتحام مدينة منبج والسيطرة على مساحات كبيرة فى شمال شرقي سوريا.
ويشير مؤشر العلاقات الأمريكية التركية إلى حدوث طفرة في التعاون بينهما، ويؤكد حرص الطرفين على توسيع حجم تعاونهما فى كل المجالات، ابتداء من صفقة المقاتلات الأمريكية التي أبرمتها تركيا أخيراً مع الولايات المتحدة إلى تعزيز التبادل التجاري بين البلدين واتفاقهما الأخير على منع حدوث فراغ فى السلطة بعد انسحاب القوات الأمريكية، وقد أثار هذا التحالف شكوك المراقبين حول دوافع هذا التحالف وأهدافه ومصيره.
أما إيران فقد تكون من أكثر الدول استفادة من القرار الأمريكي، حيث يشير مراقبون إلى أن الانسحاب الأمريكي سوف يصب في مصلحة حلفاء الأسد العسكريين في المنطقة وسيزيد من إحكام سيطرتهم على المناطق التي كانت خاضعة للسيطرة الأمريكية أو سيطرة حلفائها.
لكن وجود إيران على رأس القائمة واعتبارها الرابح الأول يعتمد على كونها الحليف الأول للأسد في حربه ضد معارضيه التي تشارف على إنهاء عامها الثامن في مارس القادم.
وبالرغم من أن روسيا كانت ولاتزال حليف الأسد "الأقوى" خلال المرحلة لكن مكسبها من الانسحاب الأمريكي سيكون أقل نسبيا، نظرا لأن وجودها في سوريا يقتصر على دعم عسكري لتوفير الحماية للنظام السوري، مقارنة بالوجود الإيراني الذي يمتد إلى ما هو أبعد من ذلك بشكل أكثر تشعبا إلى حلفاء لها في لبنان والعراق .
و قرار ترامب بسحب قوات من سوريا ، أعاد إلى الأذهان الخطوات التي اتخذها سلفه باراك أوباما، بالانسحاب من العراق فى عام 2011، الأمر الذي أثار حينئذ انتقادات لاذعة للإدارة السابقة من قبل العديد من الساسة، وكان من بينهم الرئيس الحالي نفسه، حيث اعتبروا أن قرار أوباما حينها ساهم بصورة كبيرة فى زيادة النفوذ الإيراني فى العراق، بالتالي تفشى حالة من الفوضى فى المدن العراقية أدت فى نهاية المطاف إلى انتشار الميليشيات المتطرفة التي أثمرت عن ميلاد تنظيم داعش الإرهابي، والذى تمكن فى عام 2014، من السيطرة على المدن ذات الأغلبية السنية، وهو الأمر الذى مثل تهديدا كبيرا للمصالح الأمريكية فى المنطقة.
روسيا هي الأخرى ستعمل على تعزيز قوتها العالمية، ليس فقط في المشهد السوري وتشابكاته، وإنما يمتد ذلك إلى قضية الشرق أوسط المحورية وهي القضية الفلسطينية خلال الفترة المقبلة، ويتوقع محللون سياسيون أن تستمر موسكو في خططها لإحكام السيطرة على باقي أنحاء سوريا لصالح الأسد حتى عام 2021، وسيكون ذلك من خلال توسيع دعمها الضمني للقوات المدعومة من قبل إيران، والتي تخدم بالفعل كالشرطة المحلية الفعلية في غربي سوريا.
وتشير تقارير إلى أن الفترة القليلة القادمة سوف تشهد زيادة في التقارب في العلاقات بين موسكو وتل أبيب بعد القرار الأمريكي، إذ يمثل التقارب مع إسرائيل فرصة مهمة للجانب الروسي لمواصلة دبلوماسيتها، والتي قامت على تجريد واشنطن من حلفائها فى المرحلة المقبلة، إلا أن تداعيات التقارب بين روسيا وإسرائيل لا تقتصر فى نطاقها على الأزمة السورية، وإنما تمتد إلى القضية المركزية فى المنطقة، وهى القضية الفلسطينية.
ولعل الظروف مهيأة لروسيا للقيام بدور بارز فى القضية الفلسطينية، خاصة وأنه يتزامن مع ضعف ثقة الفلسطينيين فى الوسيط الأمريكي، فى ظل مواقفه المتحيزة التي تبناها منذ بداية حقبة ترامب، وعلى رأسها قراره بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، والذى أعلنه فى ديسمبر من العام الماضي، بالإضافة إلى دعمه غير المحدود للأنشطة الإسرائيلية التي تمثل انتهاكا صريحا لحقوق الفلسطينيين، وبالتالي فهناك حاجة ملحة لوسيط جديد يمكنه أن يحظى بثقة كافة الأطراف فى المرحلة المقبلة، وخاصة الجانب العربي.
وفي سياق متصل بقرار ترامب سحب القوات الأمريكية من سوريا ، نشر مركز دراسات الحرب الأمريكي تقريراً بعد إعلان القرار بساعات جاء في مقدمته "لم تهزم الولايات المتحدة وحلفاؤها داعش في العراق أو سوريا" وهو ما يدفع إلى التخوف من أن جيوب التنظيم قادرة على لملمة نفسها مرة أخرى.

" قوى متضررة من قرار ترامب "

تعد خسارة إسرائيل نتيجة طبيعية لكون إيران الرابح الأكبر، حيث تشعر تل أبيب بالقلق إزاء خروج حليفها المقرب (الولايات المتحدة) من سوريا والذي على أثره فقدت ورقة مهمة بميزان الضغط على روسيا، إذ كانت ترمي إلى مساومة موسكو لإجبار إيران على الخروج من سوريا مقابل انسحاب الولايات المتحدة من شمال شرق الفرات، مما قد يضطرها فى ضوء المتغيرات الجديدة إلى الخيار الأخير وهو التقارب مع الجانب الروسي والذي قد يمثل فرصة ذهبية لموسكو فى مسارها الدبلوماسي لاستقطاب حلفاء واشنطن وتطويق سوريا.
لكن قد تلجأ تل أبيب إلى التصعيد عوضاً التقارب مع روسيا حيث قالت مجلة "يسرائيل ديفينس العبرية" إن هناك خطوات إسرائيلية محددة هدفها دفع إيران، على الانسحاب من سوريا، أهمها الضربات الجوية للأهداف الإيرانية في القلب السوري نفسه، وقال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إن إسرائيل ستصعد معركتها ضد القوات المتحالفة مع إيران في سوريا بعد انسحاب القوات الأمريكية من البلاد.
ووفقاً للمراقبين، فإن إسرائيل ستضطر بعد الانسحاب الأمريكي من سوريا لإدارة أمنها عبر المسارات السياسية والعسكرية ومحاولة عمل ثقل مضاد أمام القوى المتواجدة هناك، وبالتالي قد تلجأ لتعزيز علاقاتها بمحور قبرص – اليونان وحتى تركيا، وهو ما يفسر الاهتمام الأمريكي الحالي بالمحادثات التي تجري بين إسرائيل وقبرص واليونان بهدف الحفاظ على تأثيرها على منطقة الشرق الأوسط، لكنه تأثير من دون تواجد عسكري.
وإلي جانب خسارة إسرائيل ، يعتبر الأكراد من أكبر الخاسرين من القرار الأمريكي، إذ بات الأكراد معقلين بين مطرقة تركيا والسندان السوري، خاصة أن واشنطن كانت هي الداعم المحوري والرئيس لقوات سوريا الديمقراطية (الأكراد) ، الأمر الذي يصب في مصلحة تركيا.

إجمالي القول أن الخطوة الأمريكية بالانسحاب من سوريا ، ربما تفتح الباب أمام تكهنات عدة، يدور معظمها حول مستقبل الدور الأمريكى فى الشرق الأوسط، خاصة وأن الأوضاع فى سوريا لم تعد مقتصرة فى تداعياتها على الداخل السورى، وإنما امتدت لتصبح مرتبطة بالعديد من الملفات الدولية والإقليمية الأخرى، وعلى رأسها أمن إسرائيل، وهى القضية التى تمثل أولوية أمريكية فى المنطقة المتأججة بالصراعات منذ عقود طويلة من الزمن، بالإضافة إلى قضية النفوذ الإيرانى.