• عروسة المولد
    عروسة المولد
  • حصان المولد
    حصان المولد
  • حلوي المولد
    حلوي المولد


القاهرة .. حسام إبراهيم

إذ أخذت "سرادقات حلوى المولد" زينتها وبلغت ذروة توهجها في شوارع مصر المحروسة مع نفحات مباركة وساعات يستعد فيها المصريون وكل العالم الاسلامي للاحتفال بالذكرى العطرة لمولد الحبيب المصطفى، فإن هذه الحلوى وخاصة "عروسة المولد والحصان" تشكل تفردا تاريخيا إبداعيا مصريا في هذا الاحتفال ورمزا غاليا من رموز الثقافة الغذائية المصرية المقترنة بالبهجة.
وبقدر ما تشكل "حلوى المولد النبوي" مظهرا من مظاهر البهجة المصرية في الاحتفال بهذه الذكرى العطرة، فإنها تومئ أيضا لهوية المصريين وتراثهم وتاريخهم الثقافي وعاداتهم وتقاليدهم وانتصارهم للحياة والبهجة البريئة.

وفيما تتابع الصحف ووسائل الإعلام على وجه العموم مؤشرات أسعار حلوى المولد ويتطرق البعض لأسعار السكر والمكسرات والمواد الخام التي تدخل في صناعة الحلوى؛ تتردد الآن المصطلحات الغذائية المحببة للمصريين مثل: "الحمصية والسمسمية والفولية والبندقية واللوزية والملبن".

ويتفق خبراء التغذية الذين يتحدثون عبر المنابر الصحفية والإعلامية في سياق الاحتفال بذكرى المولد النبوي على أن "حلوى المولد" تحتوي على الكثير من الفوائد الغذائية؛ غير أنهم يحذرون من الإفراط في تناولها.

و"عروسة المولد والحصان" المصنوعان من السكر هما إبداع مصري أصيل في الاحتفال بالمولد النبوي الشريف لبث البهجة في نفوس الأطفال الذين ينتظرون كل عام "سرادقات حلوى المولد" وتتجه أنظارهم صوب العروس والحصان بالألوان المزركشة والمبهجة، فيما عرفت شوارع مصر المحروسة عبر تاريخها المديد وضع زينات في الشوارع في سياق تلك الاحتفالات.

ولبعض الباحثين في التاريخ مثل إبراهيم عناني؛ عضو اتحاد المؤرخين العرب؛ كتابات مشوقة عن الاحتفال بالمولد النبوي و"عروسة المولد" التي ترجع للعصر الفاطمي، فيما يشير عناني إلى أن صناع حلوى المولد بمصر في العصر الحديث يشكلونها أحيانا في ضوء الأحداث والتحديات التي يواجهها المصريون.

كما تناول أستاذ الأدب العربي بجامعة حلوان الدكتور بهاء حسب الله من منظور تاريخي احتفالات المصريين بالمولد النبوي الشريف بإضاءة القناديل في المساجد والتهليل والتكبير والتنزه في نهر النيل بمراكب شراعية، بينما يبقى الغذاء من الملامح الراسخة لتلك الاحتفالات في كل ربوع مصر حيث يأكل المصريون ما يحبونه من ألوان الطعام في مناسبات احتفالاتهم.

وفي مصر "أرض الكنانة" تتجلى العلاقة بين الثقافة والغذاء والهوية في تلك الساعات المباركة، بينما تجمع حلوى المولد التي تعد من أهم ملامح احتفالات المصريين بمولد الحبيب المصطفى ما بين مظاهر البهجة وعلامات الهوية.

والاحتفالات بالمولد النبوي الشريف شكل مددا لكتابات بمداد الحنين للأيام الخوالي واستحضار "لمة العائلة والجيران" والطقوس المبهجة للأطفال مع "العروسة والحصان" واستدعاء ذكريات وأحباب ذهبوا منذ سنين طويلة ومازالوا يعيشون فينا.

وإذا كان المصريون قد أبدعوا في صناعة الحلوى التي تجاوز عدد أنواعها في عصورهم الوسطى 50 نوعا حسب كتابات ودراسات تاريخية، فإن "سوق الحلاويين" عند "باب زويلة" في قاهرة العصور الوسطى، كان يتحدى كل أسواق العالم بمعروضاته من ألوان وأصناف الحلوى.

وبثقافة التضامن والتكافل التي تضرب بجذورها العميقة في بنية الضمير المصري تشكل الاحتفالات بالمولد النبوي الشريف علامة دالة على هذه الثقافة حيث يجد أصحاب الحاجات من يوسع عليهم في هذا "اليوم المفترج" ويقدم الحلوى لأطفالهم.

والأمر هنا في مصر الخالدة قد يشكل نموذجا هاديا لكاتب غربي مثل الكاتب الايطالي ستيفانو بيني الذي تناول في طرح بعنوان "الطعام والتعايش" الدور الذي ينهض به إعداد الطعام وتبادله أحيانا كهدايا بين العائلات المختلفة في تعزيز المناعة المجتمعية وترسيخ بنية المجتمع و"بث الألفة بين كل من يعيشون تحت سماء واحدة في بلد واحد".

وفيما يقول ستيفانو بيني: "إذا نجحنا في أن نشم رائحة مطبخ الآخرين وأن نعرف شيئا عن تراثهم، فقد تمضي الأمور على نحو أفضل"، فالحلوى في الثقافة الغربية كما هو في ثقافات عديدة تقترن بالبهجة وبعض الدول مثل بلجيكا تفخر بأنها معقل من معاقل الحلوى الغربية وتتنافس مع بلدان أخرى كهولندا وألمانيا وسويسرا في تقديم مذاقات متعددة للشوكولاته.

ولئن ضم "الميدان الكبير" في العاصمة البلجيكية بروكسل أحد أكبر تجمعات تجار الشوكولاته والحلوى ككل في أوروبا، فإن الحلوى العربية حاضرة في مثل هذا التجمع عبر "متاجر الحلوى المغربية".

وفي صيف عام 2005 عرض في مصر فيلم "تشارلي ومصنع الشوكولاته"، وهو فيلم أمريكي ينتمي للفانتازيا الكوميدية ويدور حول مجموعة أطفال في زيارة لمصنع للشوكولاتة والحلوى يمتلكه ثري غريب الأطوار، فيما قدرت بيانات منشورة بأن مجموع إيرادات هذا الفيلم بلغ 475 مليون دولار.

وفي بلد أوروبي آخر كأسبانيا تشكل الحلوى جزءا أصيلا من تقاليد الأسبان وثقافتهم بل إن أحد أنواع الحلوى يعد رمزا من رموز اسبانيا على مستوى العالم وهو "التشورو بالشوكولاته" حيث تزهو "قطع التشورو المصنوعة من دقيق القمح بالشوكولاتة الكثيفة.

وفي كتاب صدر بالانجليزية للمؤرخ المتخصص في تاريخ الغذاء؛ كين ألابالا، وعنوانه "قارئ تاريخ الغذاء: مصادر أساسية"، دراسة مشوقة لطقوس البهجة عندما يجتمع البشر معا لتناول الطعام كما يتحدث عن اتجاهات الثقافات المختلفة حيال الغذاء.

ويوضح كين ألابالا أن "الغذاء يساعد في تعريف الهوية"، فيما التاريخ الغذائي لمجموعة إنسانية ما يكشف الكثير عن ثقافتها، ويتوغل من منظور تاريخي ثقافي في ألوان الطعام لأرض الرافدين ومصر القديمة والإغريق والرومان وانجلترا في العصر الفيكتوري، محتفلا بحب الإنسان للطعام عبر الزمان والمكان.

ولا ريب أن "حلوى المولد" كمظهر من مظاهر البهجة، تعبر عن احتفال المصريين بالحياة، بقدر ما تشكل ظاهرة اجتماعية- ثقافية تضرب في أعماق تاريخهم منذ العصور الوسطى وتعبر عن الهوية في تجلياتها الثقافية الغذائية.

فحلوى المولد علامة ثقافية دالة على الهوية المصرية واحتفال المصريين بمولد نبي الرحمة، كما هو الحال في احتفالات عيد الميلاد وبداية العام الجديد في الغرب حيث تشكل "الديوك الرومي" عنصرا لا غنى عنه في موائد تلك الاحتفالات، كما أنها تدخل بعمق في الموروث الشعبي لثقافات الغرب وخاصة في الولايات المتحدة.

والتراث الشعبي المصري حافل بمشاهد الاحتفال بالمولد النبوي الشريف مثل "زفة المحامل"، كما يحلو للبعض وخاصة في الريف الزواج في ذكرى المولد النبوي تيمنا بالذكرى العطرة، فيما تمتزج الفرحة بأصوات المنشدين، وكذلك تشكل هذه الساعات المباركة بروحانيتها الساطعة في الوجدان العام للمصريين أجواء مثالية لجلسات الصلح واستعادة الوئام بين المتخاصمين والمتنازعين على شيء من حطام الدنيا.

ولعل مظاهر الاحتفال بالذكرى العطرة لمولد خاتم الأنبياء تصل لذروتها في الأحياء القاهرية العتيقة التي احتفى بها الأدب المصري وأبدع في الكتابة عنها هرم الرواية العربية نجيب محفوظ وسلالة النجباء في الرواية المصرية الذين يدركون المغزى الثقافي لأسماء أماكن كالأزهر وبين القصرين وبيت القاضي وباب الفتوح ومسجد الأقمر بالجمالية.

ولئن ابتدع الفاطميون في مصر الكثير من أنواع الحلوى، فإن الكاتب الروائي والنائب البرلماني يوسف القعيد قد تطرق في سياق تفسيره للمقولة الشهيرة: "اللي بنى مصر كان في الأصل حلواني" إلى كتب التاريخ التي تحدثت عن توزيع الحلوى على الأطفال من جانب أتباع الوزير جوهر الصقلي عند استقبال المعز لدين الله الفاطمي بالقاهرة؛ "حيث تم الربط بين جوهر الصقلي الذي بنى القاهرة وبين توزيع الحلوى".

ويقول المؤرخ المقريزي في كتابه "الخطط" إن مصر منذ أن جاء الفاطميون في منتصف القرن الرابع الهجري تقريبا، وهي تموج في معمعة من الاحتفالات وصلت إلى نحو 30 احتفالا فيما تعلق الزينات والقناديل على المساجد والبيوت.

وفي قلب القاهرة المعزية وما بين الأزهر وشارع المعز تجمع كبير لمحال العطارة فيما يعرف بـ"حارة العطارين"، وهنا في وكالات ومتاجر العطارة تتردد مصطلحات مثل "عرق الحلاوة" الذي يطحن ويدخل في إعداد الحلوى.

اما في وسط القاهرة وما يعرف بـ"القاهرة الخديوية" فتتركز المحال الكبرى لبيع حلوى المولد وتسطع "عروسة المولد والحصان" بألوان مبهجة لتحسدها "تماثيل الشيكولاته وقطع الجاتوه" على اقبال الجمهور الذي تشكل "العروس والحصان" جزءا غاليا من ذاكرته المرتبطة بالاحتفال بمولد سيد الآنام.

وعروسة المولد باتت تأخذ أشكالا متعددة في السنوات الأخيرة ولم تعد قاصرة على "العروس الحلاوة"، فهناك العروس البلاستيكية المكسوة بالقماش والدانتيل وهناك العروس التي تتحرك بالبطاريات.

وإذا كانت عروسة المولد باتت تأخذ أشكالا متعددة، فمن الطريف أن يرصد البعض تأثير ثورة الاتصالات على مظاهر احتفالات المصريين في المولد النبوي الشريف وتغيير نغمات أجراس الهواتف المحمولة إلى أغان دينية ومديح للسراج المنير والرحمة المهداة للبشر أجمعين.

وبالطبع، فإن مواقع التواصل الاجتماعي مثل فيس بوك وتويتر والتطبيقات التقنية الاتصالية مثل "واتس اب"، تتحول في تلك الساعات المباركة إلى ساحة رحبة لتبادل التهاني بالذكرى العطرة.

وفي منطقة الدراسة ومحيط المسجد الحسيني، تحتفل مشيخة الطرق الصوفية بالمولد النبوي الشريف، فيما الدعاء لمصر من القلوب العاشقة للرسول الحبيب.. إنها أرض الكنانة المحبة لنبي الرحمة وحبيب خالق الأرض والسماء.. سيدي يا رسول الله قلوبنا تنبض بحبك وتبتهج بذكرى مولدك الشريف.

أ ش أ