• الحج
    الحج


كتب: حسام إبراهيم

إذ يهب نسيم نفحات مباركة مع رحلات الحجيج لمكة المكرمة، فإن طرق الحج تشكل مددا وفضاء للابداع والثقافة والتواصل الإنساني والحضاري.
والذاكرة الثقافية التاريخية لطرق الحج تقول مثلا إن "درب الأربعين" كان يتقاطع مع "طريق المغرب العربي" الذي كانت رحلات الحج والقوافل التجارية تمر عبره، فيما كانت القوافل تعبر "طريق الأربعين" التجاري القديم إلى دارفور في السودان ومنها إلى أعماق افريقيا.
ومن هنا فإن واحة مصرية هي "واحة باريس" التي تتبع الواحات الخارجة وتقع على درب الأربعين اكتسبت ملامح مميزة بفضل موقعها على هذا الطريق التاريخي لرحلات الحج والتجارة، وانعكس هذا الموقع على طبيعة سكان الواحة وثقافتهم.
وحسب دراسات ثقافية في مجالات التاريخ والعمارة والانثروبولجيا أو "علم الاناسة"، فإن واحة باريس يرجع اسمها على الأرجح الى بيريس قائد جيش قمبيز الفارسي الذي هلك في بحر الرمال العظيم بين الخارجة وسيوة، فيما يهتم سكانها بطلاء واجهات بيوتهم الطينية بألوان قوية لمناسبات الحج والعمرة فضلا عن الوظائف الجمالية.
والبيت الواحاتي المصري ينفتح على الداخل كما هو الحال بالنسبة للبيت العربي عموما العربية ليعطي قدرا من الخصوصية، فيما تنقش على واجهته وجدرانه أشكال زخرفية تحمل الكثير منها رسوم الحج مثل الكعبة المشرفة في مكة المكرمة والمسجد النبوي في المدينة المنورة إضافة للجمال التي كانت تستخدم من قبل في رحلات الحج حتى تطورت إلى البواخر والطائرات.
وهذه الألوان القوية لرسوم الحج تعكس مؤثرات افريقية جاءت عبر "درب الأربعين" شأنها في ذلك شأن بعض المنتجات الحرفية لسكان واحة باريس كمشغولات السعف التي تبدو قريبة من مثيلاتها في السودان.
أما "مدينة الباويطي" وهي مركز الواحات البحرية، فأخذت اسمها من "الشيخ حسن ابي يعقوب بن يحيى الباويطي"، وهو احد علماء الدين المغاربة وقد آثر البقاء بين سكان هذه الواحة المصرية خلال عودته من الحج شأنه في ذلك شأن عشرات من الشيوخ والمتصوفة المغاربة الذين زخرت بهم المدن والقرى المصرية.
وها هو الكاتب الروائي المصري محمد جبريل يتناول هذه الحقائق التاريخية المعبرة عن المؤثرات الثقافية لرحلات الحج فيتحدث في كتابه "الحنين إلى بحري" عن تلك الأعوام القديمة التي توالى فيها قدوم المئات وربما الآلاف من متصوفة المغرب العربي يسعون إلى الحج؛ تطول الرحلة على الأقدام أو بواسطة الركوبة المجهدة ويحاولون التقاط الأنفاس في الأسكندرية ويمرون بها مجددا في رحلة الإياب من الحج.
وهكذا نية الاقامة أياما تمتد إلى نهاية العمر يشيدون مع المصريين الطيبين مساجد وزوايا تضاف إليها بعد الرحيل من الدنيا أضرحة ومقامات حتى "مسجد تربانة" بشارع فرنسا أنشأه المغربي إبراهيم عبده المغربي الشهير بتربانة.
وعرض محمد جبريل لتلك الرحلات الجميلة في العديد مما كتب: ثمة ابو الحسن الشاذلي وأبو العباس المرسي وياقوت العرش وأبو حامد الغزالي وابن خلدون وابن أبي الدنيا وابن عربي وابن عطاء الله وعبد الرحمن بن هرمز وعلي تمراز وعبد الرحيم القنائي ومحمد العطار الذي ينسب له جامع العطارين.
وهكذا فهو يصف الأسكندرية بأنها "باب المغرب" فلا فاصل بينها وبين المغرب سوى الصحراء التي تتناثر فيها بلدان المغرب العربي: ليبيا وتونس والجزائر والمغرب وموريتانيا.. وثمة روايات تاريخية- كما يقول محمد جبريل- تؤكد ان العنصر الوطني في الأسكندرية يعتمد في أصوله القديمة على الوافدين من المغرب ربما قبل أن يقود جوهر الصقلي حملة الفاطميين إلى الأراضي المصرية.
وهكذا أيضا فإن "حي بحري" في الأسكندرية الذي يعشقه هذا المبدع المصري حيث ملاعب الطفولة وأيام الصبا تحول في خضم توالي السنين الى مركز استقطاب للباحثين عن اليقين بداية من أداء الفرائض والسنن وانتهاء بتلمس البركة والشفاعة والنصفة من الأولياء الذين تشغي بهم جوامع الحي وزواياه وأضرحته ومقاماته.
بل ان الجد الأكبر لعائلة الروائي المصري محمد جبريل هو من المغرب وكان يدعى "قاضي البهار" وقد حدثه والده عن أن ذلك الجد جاء من المغرب واختير "قاضيا للبهار"، مثلما اختير ابن خلدون قاضيا واختير علماء آخرون لمهن مختلفة تنتسب إلى زمانها.
وقد شغلت هذه التسمية "قاضي البهار" عما عداها محمد جبريل الذي نظر لها كأنها تنتسب الى عوالم "ألف ليلة وليلة" وحكايات التراث العربي فجعل الاسم بالفعل عنوانا روائيا: "قاضي البهار ينزل البحر".
وتحول انشغاله أثناء ذلك إلى محاولة قراءة تاريخ علماء المغرب في مدن مصر: متى قدموا؟ وكيف؟ ولماذا اختاروا الاقامة في هذه المدينة أو تلك ببر مصر المحروسة؟ وهل كانوا جميعا من المتصوفة أو أنهم وجدوا في الحياة المصرية ما يغريهم بالبقاء؟ وها هو جبريل يتناول في كتابه "حكايات عن جزيرة قاروس" تاريخ العلاقات المغربية- المصرية من خلال هجرات العلماء المغاربة إلى مصر.
ومن هؤلاء المغاربة الذين جاؤوا عبر رحلات الحج من اتخذ الأسكندرية معبرا إلى مدن مصر الأخرى وخاصة القاهرة ومنهم من فضل الاقامة فيها، ومن هنا فثمة عشرات الجوامع والمساجد والزوايا والمزارات تتناثر في امتداد الأرض المصرية تنتسب إلى علماء المغرب لتعمق اليقين الديني وتسم معتقدات المصريين وعاداتهم وسلوكيات حياتهم بما قد لا نجده في مجتمع آخر، كما يلاحظ الكاتب الروائي محمد جبريل.
ومخيلة هذا الروائي المصري اخترعت أولياء آخرين كما في قصة "الابانة عن واقعة كنز الشيخ المغربي"، أما الأولياء الحقيقيون في حي بحري فهم جزء من حياته وفي مقدمتهم أبو العباس المرسي الذي هو في تسمية السكندريين "سلطان الأسكندرية".. إنها الأسكندرية التي مثلت حلقة اتصال بين علماء المغرب وطريق الحج إلى بيت الله الحرام.
ورحلات الحج حاضرة في ابداعات روائية عربية مثل رواية "نجمة" للكاتب الجزائري الراحل كاتب ياسين الذي كان يكتب بالفرنسية ويتناول فيها الكثير من تفاصيل رحلات الحج للجزائريين ومنهما "سي مختار ورشيد" اللذين يركبان البحر من قسنطينة قاصدين الحج في مكة المكرمة.
وإذ يرسم كاتب ياسين الذي ولد عام 1929 في قسنطينة وقضى في الثامن والعشرين من أكتوبر عام 1989 صورة إبداعية في روايته "نجمة" لاستعدادات الجزائريين للحج والسفر عبر البحر الى جدة بقصد التوجه لمكة المكرمة، فإن كتب التاريخ وكتابات لمؤرخين كبار مثل الكاتب المصري الراحل الدكتور حسين مؤنس تقول ان مصر استقبلت الكثير من الأشقاء الأفارقة القادمين عبر "طريق الحج" القديم قبل عصر النقل الجوي.
فالقوافل القادمة من عمق أفريقيا كانت تعبر على هذا الطريق حتى تنزل في مدينة قوص بمحافظة قنا ثم تعبر الصحراء الشرقية وصولا للبحر الأحمر ومنه للحرمين الشريفين أو يصعد بعضهم مع النيل إلى القاهرة ومنها يواصلون رحلتهم الروحية مع أشقائهم من الحجاج المصريين عبر مدينة السويس.
ومن نافلة القول إن هذا الطريق للحج كان ينطوي على تواصل ثقافي عميق ضمن التواصل الحميم بين المصريين وأشقائهم الأفارقة القادمين للحج طوال اقامتهم على ارض الكنانة، كما توقف المؤرخ الراحل حسين مؤنس مليا عند ما كان يعرف "بالركب المغربي" الذي كان يخرج من فاس ومراكش للحج ويقضي بمصر عدة أشهر، فيما قد يصل عدد أفراد القافلة إلى 50 ألف مغربي.
فرحلات الحج أفضت لهذه الجغرافيا المشتركة وظهور ما يعرف "بطريق الحج التاريخي" وجعلت من مصر مقصدا للقادمين من عمق القارة الأفريقية وصولا لمقصدهم النهائي وهو الحج في مكة المكرمة.
فقبل نحو قرن من الزمان كان الأشقاء الأفارقة من بلدان متعددة مثل تشاد والنيجر ومالي ونيجيريا والسنغال يعبرون أرض مصر من خلال طريق الحج القديم قبل عصر الطيران ويعيشون على أرض الكنانة وبين أشقائهم المصريين أياما أو شهورا قبل استكمال الرحلة للحرمين الشريفين.
ويعيد ذلك للأذهان ملاحظة المفكر الاستراتيجي الراحل جمال حمدان حول مثل هذه الروافد التي كانت تصب أثرها بهدوء في مصر؛ "أي أنها تصب آثارا اجتماعية واقتصادية ونفسية وعلمية كبيرة ومتدفقة في وجدان الإنسان المصري وشخصيته"، موضحا أيضا أن طريق الحج القديم الذي يخترق العمق الأفريقي ويمر ببلدان كثيرة كان طريقا من طرق التجارة العالمية كطريق الحرير الذي كان يعبر من عمق آسيا إلى أوروبا.