• خلافات تجارية
    خلافات تجارية


تقرير: أحمد تركي
فجر قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بفرض رسوم جمركية عالية تصل إلى 25 في المائة على منتجات الصلب والألومنيوم القادمة من الاتحاد الأوروبي وكندا والمكسيك، أجواء حرب تجارية مع الاتحاد الأوروبي بعد أن فجرها من قبل مع الصين، التي أعلنت بدورها عن فرض رسوم تجارية على عدد من المنتجات الأمريكية، الأمر الذي يحمل في جنباته حرباً تجارية سوف تمتد إلى دول الشرق الأوسط .
وكان نتيجة ذلك أن رد قادة الدول المعنية باتخاذ إجراءات مماثلة على صادرات الولايات المتحدة إلى بلدانهم من عدد من السلع والمنتجات الأخرى، حيث يرى قادة أوروبا بأن مثل هذا القرار يعتبر "غير قانوني"، كما تحدث عنه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون هاتفيا مع ترامب مؤخرا، محذرا من أن الاتحاد الأوروبي سيرد "بطريقة صارمة ومناسبة".
ومن هنا فإن ما تشهده العلاقات الأمريكية - الأوروبية من تبادل رفع الرسوم التجارية هو بمثابة الانطلاقة نحو حرب تجارية شعواء تؤثر على الاقتصاد العالمي، حذر عدد من الخبراء من تداعياته خاصة وأن الجانب الأوروبي أعلن عن زيادة في الرسوم على المنتجات الأمريكية.
وأمام هذا المشهد المتوتر في العلاقات الأمريكية الأوروبية، وإصرار الرئيس الأمريكي على فرض المزيد من الرسوم على المنتجات الصينية، فإن العالم قد يشهد اندفاعا متبادلا في فرض الرسوم ليتجه الاقتصاد العالمي نحو الركود وحرب تجارية حقيقية سوف يكون لها تأثيرها الكبير على العلاقات السياسية بين ضفتي الأطلسي وتمتد إلى الصين ثاني اقتصاد العالم .
ويتشكك كثير من المراقبين والمحللين تجاه قمة الناتو القادمة المزمع عقدها في العاصمة البلجيكية بروكسل يومى 11-12 يوليو المقبل، ويتساءلون عما إذا كان العجز الذي تبدى في قمة كيبك (الدول السبع الكبار) سيعاود الظهور في بروكسل ، ويزيد من حدة هذه الشكوك والهواجس عدة عوامل، أولها: أن ملف الناتو والتوزيع المتوازن لنفقاته كان مطروحا طرحا حادا من جانب حملة ترامب الانتخابية حتى تغريداته في طريقه إلى سنغافورة. وثانيها: أنه أحد الملفات الأوروبية الأكثر إلحاحا الآن، ففي ظل توسعية بوتين استعاد ملف الأمن الأوروبي أهميته بعد تراجعه في أعقاب نهاية الحرب الباردة وسنوات الكمون الروسي، ليحتل الصدارة مع التدخل الروسي في أوكرانيا وضم القرم. وثالثها: نزعة ترامب للتخفف من الالتزامات التعاقدية الدولية، المصحوبة بقرارات فجائية مثل القمة الكورية.
آفاق محكومة بالمصالح
من شأنها هذه الخلافات التجارية أن تدخل الجانبين الأمريكي والأوروبي في دائرة من القرارات والقرارات المضادة ، أو بمعنى آخر في حرب تجارية بين أكبر حليفين في العالم ، بكل ما يترتب على ذلك من نتائج تجارية واقتصادية وسياسية، وما حدث في قمة الدول السبع الصناعية الكبرى في كندا هذا الشهر يظل نموذجا للمدى الذي يمكن أن تتخذه العلاقات بين ضفتي الأطلنطي ، وهو ما لا ترغب فيه أوروبا لاعتبارات كثيرة ، اقتصادية وتجارية وسياسية، وذلك بالنظر إلى المصالح الاستراتيجية العليا بيد الطرفين على النحو التالي:
أولاً: أن العلاقات الأوروبية الأمريكية هي علاقات أقوى وأعمق من أن تتفكك بسبب الخلافات التجارية، لأن مبدأ البحث عن الأمن المتبادل والشعور به بالفعل في إطار التحالف بين ضفتي الأطلنطي، هو أمر له أهميته الكبيرة على كلا الجانبين الأمريكي والأوروبي . ولعل ذلك هو ما جعل واشنطن تتحمل النصيب الأكبر، بحكم إمكاناتها وريادتها، من نفقات حلف الأطلنطي على مدى السنوات السبعين الماضية تقريبا، لإدراكها أن ذلك يحقق مصالحها.
بل إن مشروع مارشال الذي تم من خلاله إعادة بناء أوروبا الغربية بعد الحرب العالمية الثانية ، هو مشروع أمريكي، انطلق من استيعاب واشنطن لأهمية وضرورة استيعاب أوروبا الغربية في إطار التحالف بين ضفتي الأطلنطي لمواجهة موسكو، بغض النظر عن التكلفة المادية لذلك.
وإذا كانت واشنطن دعت حلفاءها في حلف الأطلنطي قبل عدة سنوات لتحمل جزء اكبر من النفقات الدفاعية للحلف وهو ما استجابت له دول أوروبا الغربية وفي مقدمتها ألمانيا، فإن الدعوة الأمريكية في ذلك الوقت كانت دعوة تحمل في طياتها نوعاً من الصداقة والتعاون وليست الندية كتلك التي وجهها ترامب للاتحاد الأوروبي الآن، والتي ترتكز على منطق مغاير وهو حساب الربح والخسارة ، ومن منطلق الإيرادات والنفقات ، ومن النظرة القائمة على الدفع مقابل الأمن ، وهي نظرة تختزل العلاقة الأمريكية مع حلفائها إلى درجة متدنية.
ثانياً: إن العلاقات الأمريكية الأوروبية ، أو العلاقات بين ضفتي الأطلنطي، ليست مجرد علاقات تجارية أو اقتصادية تحكمها المصالح المالية أو التجارية المباشرة، أو حساب النفقات والإيرادات، ولكنها في الواقع علاقة تحالف استراتيجي ، بين أوروبا الغربية والولايات المتحدة الأمريكية، وعلاقة شراكة في القيم والمبادئ السياسية التي تحكم نظرة وسلوك كلا الجانبين، فضلاً عن أنها علاقات ترابط ومصالح متعددة الجوانب والمستويات بين القوة الأولى في عالم اليوم وبين ظهيرها السياسي القوي والنشط، والمتمثل في أوروبا الغربية التي اتسعت لتشكل الاتحاد الأوروبي.
ثالثاً: إن العلاقات الاستراتيجية والعميقة بين أوروبا والولايات المتحدة، لا تعني حدوث خلافات بين الجانبين، ولكن الخلافات أمر طبيعي في العلاقات بين الدول ذات المصالح المتباينة، وقد حدثت بالفعل خلافات في قضايا عديدة تجارية واقتصادية وسياسية، ولكنها ظلت وستظل خلافات بين أصدقاء تربطهم علاقات استراتيجية ومصالح أمنية عميقة، وأنه يجب التغلب على تلك الخلافات في إطار هذه المصالح، وبما يخدم المصالح المشتركة والمتبادلة للطرفين وعبر المفاوضات بينهما.
لكن المشكلة حالياً أن النهج الذي اتخذه الرئيس ترامب يميل بشكل واضح إلى تجاهل أو على الأقل التقليل من أهمية تلك المصالح المشتركة والعميقة، والميل إلى قياس كل شيء بمنطق الصفقة والربح والخسارة المالية، دون اعتبار لمصالح كثيرة لا تقاس بمنطق رجال الأعمال.
رابعاً: إن الصدام التجاري الحالي لن يتوقف مع قرب سريان مفعول الرسوم التجارية المتبادلة في السادس من يوليو القادم، بل إن الصين سوف تفرض رسوما على المنتجات الأمريكية بقيمة 100 مليار دولار وذلك ردا على القرار الأمريكي، وبنفس النسبة من المبالغ المحصلة من رفع الرسوم، وهذه بالفعل حرب تجارية واضحة ولها تداعياتها المؤثرة سلبا على الاقتصاد والتجارة العالمية وسوف تتضرر منها الشعوب قبل الحكومات.
وعلى ضوء ما سبق، فإن ثبات الموقفين الأمريكي والأوروبي حول فرض الرسوم المتبادلة ، سوف يدفع نحو حرب تجارية، وهذا بلا شك يتطلب رؤية موضوعية من الشركاء على ضفتي الأطلسي، لتجاوزه، ومن هنا فإن المسألة تحتاج إلى مراجعة متأنية خاصة من قبل واشنطن، وقد تضطر الولايات المتحدة إلى إيجاد مرونة ما إذا تواصلت الضغوط عليها من دول الاتحاد الأوروبي وبمساندة من الصين، وبدون ذلك فإن الحرب التجارية سوف تعم العالم شرقه وغربه، بسبب الخطوة الأمريكية غير المحسوبة، مما يحتم تدخل المنظمات الدولية وخاصة منظمة التجارة العالمية.
ووفقاً لأدبيات العلوم السياسية، فإن السياسة الأمريكية عليها أن تعيد النظر في رؤيتها لعملية صنع القرار الخارجي، بعيداً عن سمات الإدارة التجارية، التي يسيطر عليها مفهوم الصفقة، ويجري ربط مباشر بين تكلفة المصلحة الاقتصادية وجدوى التحالف السياسي، وتقييم التزامات التعاهدات العامة المنظمة للمجالات الدولية، بعائدها الخاص والمباشر وليس بعائدها العام والاستراتيجي، وفي هذا الحالة فإن ثمة آفاقاً مستقبلية أكثر انفتاحاً وتعاوناً في مجمل العلاقات الأمريكية الأوروبية، بما يعود بالمنفعة على العالم وفي القلب منه الشرق الأوسط.