• كذبة أبريل
    كذبة أبريل


كتب : حسام إبراهيم
إذ يقترن الأول من إبريل بالكذب الطريف، أو ما يعرف بـ"كذبة إبريل"، كمناسبة طريفة باتت عابرة للثقافات حول العالم عند الكثير من الشعوب، فإن قضايا "الصدق والكذب" تفرض نفسها في الأدب والفن والحب والسياسة والعلاقات الدولية أيضا.
ومن منظور تاريخي ثقافي، فإن "كذبة ابريل" ظهرت أولا في الغرب كيوم للمزاح والمفارقات وتدبير بعض المقالب الطريفة بين الأصدقاء، والتندر على ضحايا "كذبة ابريل" التي يعود بها البعض للقرن الرابع عشر الميلادي وبدأت تنتشر على مستوى العالم منذ القرن التاسع عشر.
وإذا كان المخلصون للشعر يشعرون بالضيق حيال المقولة القديمة والشهيرة: "أعذب الشعر أكذبه"، حتى أن بعضهم يرد على هذه المقولة بمقولة مضادة: "بل أعذب الشعر أصدقه"، فإن الجدل بشأن "الصدق والكذب" طال الإبداع الروائي أيضا.
والكاتب والروائي الإيطالي الراحل ايتالو كالفينو الذي يوصف بأنه "أحد سادة الرواية في العالم"، اعتبر أن الروائي "ينطق بكسرة الحق الخبيئة في قاع كل كذبة"، فيما أشار لمسألة "الصدق الفني في الإبداع سواء كان شعرا أو رواية"، عندما قال ليس المهم أن يقول الكاتب الكذب أو الصدق؛ "لأن الأكاذيب يمكن أن تكون ممتعة وبليغة وكاشفة شأنها في ذلك شأن أي حقيقة ندعي قولها بصدق".
وأبدى كالفينو الذي قضى عام 1985 شكوكا عميقة حيال "هؤلاء الذين يدعون قول الحقيقة الكاملة عن أنفسهم والحياة والعالم"، معتبرا أن "الفانتازيا" في الكتابة قد تكون سبيلا نحو الحقيقة، وضرب المثل برائعته "لو أن مسافرا في ليلة شتاء" ليقول: "كان هدفي أن اتحدث عن حقيقة ليس بمقدوري أن أرويها بأية طريقة أخرى".
ويذهب البعض إلى أن كتابات دانيلو كيس الذي قضى في عام 1989 تعبر عما يسمى فى الأدب بفن الكذب الصادق، وهو من قلائل الكتاب الذين شغفوا بالشكل التعبيري دون أي تخل عن الرغبة في توسيع مدارك القراء وقدراتهم على فهم واستيعاب مجريات العالم.
ودانيلو كيس الذي ولد عام 1935 فى بلدة سوبوتيكا على الحدود بين الجبل الأسود "مونتينجرو" والمجر هو أحد اكثر الروائيين تفردا في النصف الثاني من القرن العشرين وحظي بإعجاب كتاب ومبدعين كبار مثل ميلان كونديرا والكسندر سولجنستين وخوان جويتيزيلو وسوزان سونتاج.
ولأنه ابن أوروبا الوسطى بامتياز وأحد كتابها الذين يمثلون عدة عرقيات فيها، فإن الموقع الذي كتبته الأقدار مطبوع على كتاباته حيث يتناول التجارب التاريخية في هذه المنطقة وهشاشة الدول الصغيرة وانكشافها تحت وطأة الضغوط وأعباء التاريخ وتداخل الجماعات والحدود غير المنضبطة ومحن النازية والفاشية والستالينية.
وعندما قضى دانيلو كيس في عام 1989 كان في الرابعة والخمسين وكان قد بلغ ما يعرف بالتحقق في عالم الكتابة وبات صاحب سلطة في دولة الكلمة، كما حظي بشهرة كبيرة وإن كان هناك من النقاد من يرى أنه لم ينل الشهرة التي كان يستحقها بالفعل، بل إن بعضهم يقول إنه تعرض لإهمال ظالم، مدللين على ذلك بأنه لم يحصل على جائزة نوبل في الآداب التي كان يستحقها عن جدارة.
وإذا كانت الآراء تختلف بين مؤيد لـ"كذبة إبريل" كمناسبة للضحك والمرح البريء ومعارض يرى أن المواقف المضحكة قد تنقلب لمآسي باكية، فإن تاريخ الأدب والأدباء عرف الكثير من الجدل والدموع التي طالت أدباء أكدوا أنهم ضحايا أكاذيب مثل الأديبة اللبنانية مي زيادة.
وحتى الآن مازالت الشهادات والروايات تختلف لحد التضارب والتناقض حول حقيقة مرض مي زيادة التي ولدت 1886 وقضت عام 1941 وتؤكد شهادة منشورة لصديقة مصرية حميمة لهذه الأديبة اللبنانية ذات الجذور الفلسطينية أنها اتهمت ظلما بالجنون وكانت "ضحية مؤامرة دبرها بعض أقاربها لاستصدار أحكام قضائية بالحجر عليها والاستيلاء على أموالها الوفيرة".
وحسب هذه الشهادة للسيدة الراحلة نور هانم مرسي، فإن صديقتها مي زيادة تعرضت لجريمة بشعة في لبنان عندما زج بها أقاربها في مستشفى للأمراض العقلية لمدة ثلاث سنوات، وهي في الواقع لم تكن تعاني من أي مرض عقلي غير أنها دفعت غاليا ثمن أكذوبة كبيرة لتمرير مؤامرة الاستيلاء على ثروتها.
ولا ريب أن قضايا الصدق والكذب حاضرة في الفن وتعبيرات وقوالب الإبداع الفني ويتفق العديد من النقاد على أن الفنان الإنجليزي الأصل شارلي شابلن الذي ولد عام 1889 وقضى عام 1977 ويوصف بأنه "أعظم ممثل ايمائي في العالم"، يعد "أيقونة للصدق الفاضح لأكاذيب عالم يطفح بالقسوة والخداع".
وإذا كان الشاعر والكاتب المصري كامل الشناوي الذي قضى عام 1965 كان نموذجا للمبدع وفنان الكلمة وصاحب الروح الطليقة، فسيبقى الشاعر الذي حول كذب الحبيبة لكلمات خالدة يستدعيها كل من تعرض للخيانة والكذب.
والحقيقة أن هذا الشاعر الذي ولد عام 1908 بقرية نوسا البحر في محافظة الدقهلية وذاعت كلماته الشاعرة: "لا تكذبي إني رأيتكما معا.. ودعي البكاء فقد كرهت الأدمعا"، كانت اختياراته غريبة ولافتة في العشق والهوى وقيل إن بطلة قصيدته الشهيرة "لا تكذبي" هي "أول حبيبة كاذبة".
وفي سياق الكذب في الحب يذهب البعض إلى أن أخطر أنواع الذكاء امرأة اعتادت أن تعلم عيونها الكذب، فالعيون هي المنطقة الوحيدة في الإنسان التي قليلا ما تعرف الكذب، وفي مقابل الحديث الذكوري عن كذب الحبيبة، فهناك كتابات تدافع عن حواء وتتهم الرجل بأنه هو الذي يكذب على الحبيبة مثل ذلك الكتاب الذي صدر في الغرب بعنوان: "الرجال والحب وحقيقة الكذب في الحياة الزوجية"، والطريف أنه بقلم رجل.
وفي هذا الكتاب يتناول الأمريكي اريك اندرسون، وهو أستاذ في علم الاجتماع بجامعة ونشستر، ثقافة الحياة الزوجية بالغرب ويسعى للإجابة عن أسئلة من قبيل: لماذا يكذب الرجال على الزوجات؟ والطريف أن الناقدة الثقافية كاترين هاكيم ذهبت في سياق تعليقها وتناولها لهذا الكتاب إلى أن العنوان الأنسب له هو "الدليل الكامل للخيانة الزوجية"، فيما يتوغل المؤلف في جذور وأسباب استشراء كذب الرجال على زوجاتهم.
ولئن فرضت قضايا الصدق والكذب في السياسة والعلاقات الدولية نفسها على ابداعات دانيلو كيس، كما فعل في المجموعة القصصية "العود والندوب"، فإن مثقفين بارزين في الغرب مثل المفكر الأمريكي وعالم اللغويات نعوم تشومسكي يؤكدون أن "الديمقراطية في الغرب حافلة بكثير من الأكاذيب" وأن وسائل الإعلام في بلد كالولايات المتحدة تقوم بأدوار دعائية لخدمة مصالح بعينها خلف ستار براق وكاذب من ادعاءات المهنية والموضوعية.
ومن هنا تحدث تشومسكي عن "القبضة الحريرية للرأسمالية الأمريكية مقابل القبضة الحديدية للنظام الشمولي في الاتحاد السوفييتي السابق"، فيما قد يكون أسلوب "القبضة الحريرية" أكثر خطورة على قضايا الحرية الإنسانية لأنه يعتمد على تكتيكات ناعمة لتخدير وتزييف الوعي ويتستر خلف ستار خادع من المهنية والموضوعية وهو يصنع الأكاذيب أحيانا ويقدمها في صورة حقائق.
ولئن خضع شارلي شابلن في عام 1948 لاستجواب من جانب مكتب التحقيقات الفيدرالية الأمريكية للاشتباه في اعتناقه أفكارا شيوعية وتعاطفه مع الاتحاد السوفييتي حينئذ وتعرض لكثير من الحملات الظالمة في الصحافة ووسائل الاعلام الأمريكية التي وصفها بأنها "تروج الأكاذيب وتنسجها حوله"، فإن "جهاز كشف الكذب" لم ينجح في كشف شخصية محيرة مثل الدريتش هازين ايمز الذي كان عمله فى المخابرات الأمريكية هو مكافحة التجسس، فإذا به يتجسس لصالح السوفييت ويدان في هذا الاتهام عام 1994 أي بعد انهيار الاتحاد السوفييتى ودخوله في ذمة التاريخ!
وكان الدريتش ايمز التحق بوكالة المخابرات المركزية فى عام 1962 وانتقل للعمل فى العاصمة التركية أنقرة عام 1969 بهدف متابعة أنشطة جهاز المخابرات السوفييتية "كى جى بى" وتجنيد بعض عملاء هذا الجهاز لحساب المخابرات الأمريكية.
وأثبتت التحقيقات فى قضية الدريتش ايمز أنه توجه بالفعل للسفارة السوفييتية في واشنطن عام 1985 عارضا بيع أسرار مقابل المال، والأمر الغريب هو أنه تخصص داخل المخابرات الأمريكية فى الشؤون السوفييتية وكان مسؤولا عن جهود التحليل الاستخباري لعمليات المخابرات السوفييتية ويعرف المصادر والعملاء الذين يعملون لحساب المخابرات الأمريكية في جهازي المخابرات العامة والعسكرية بالاتحاد السوفييتى!
وتثبت التحقيقات في قضية ايمز أن المعلومات التي قدمها للسوفييت أدت لكشف ما لايقل عن 100 عملية استخبارية أمريكية واعدام ما لايقل عن عشرة من عملاء المخابرات الأمريكية داخل الإتحاد السوفييتى.. بل إنه قدم فى نهاية المطاف للمخابرات السوفييتية كل أسماء عملاء المخابرات الأمريكية في الأراضي السوفييتية وحصل مقابل هذه القائمة على نحو أربعة ملايين ونصف المليون دولار.
غير أن الأمر الأكثر غرابة في هذه القضية هو أن الدريتش ايمز كان يجتاز اختبارات كشف الكذب الدورية بنجاح، وبعد نجاحه في كل اختبار كان يحق أضرارا فادحة حقا بالأمن القومى الأمريكي!
وفي العلاقة بين السياسة والصحافة ووسائل الإعلام، فإن "لغة المصالح والأجندات في عالم السياسة والعلاقات الدولية كثيرا ما تجور على دقة وموضوعية التناول الصحفي والتغطية الإعلامية للأحداث حول العالم".
وتلك الإشكالية انتبه لها فنانون كبار في العالم مثل شارلي شابلن الذي يعد من أهم الممثلين الذين كشفوا عبر أعمال فنية في القرن العشرين بعض أكاذيب الصحافة الغربية بسبب المصالح والتحيزات السياسية.