• نهر النيل
    نهر النيل


كتب: حسام إبراهيم
بقدر ما يتصدر نهر النيل اهتمامات المصريين، فإنه يشكل منبع الهام ثقافي ومصدر ابداعات لا تنضب؛ سواء في مصر والشرق أو في الغرب.
والنيل حاضر في إبداعات يصعب حصرها لمبدعين ومثقفين مصريين، فيما يمكن وصف الأديب النوبلي المصري نجيب محفوظ بأنه "عاشق النيل"؛ سواء على مستوى الكتابة الابداعية أو طقوس الحياة اليومية وهو الذي اختار العيش لفترة في عوامة بالنيل، وعندما تزوج عاش صاحب رواية "ثرثرة فوق النيل" في مسكن بحي العجوزة القاهري يصافح النهر الخالد، فيما اعتاد أن يكون رفيقه في مسيرته اليومية.
وها هو أمير الشعراء أحمد شوقي يخاطب النيل: "من أي عهد في القرى تتدفق/ وبأي كف في المدائن تغدق/ ومن السماء نزلت أم فجرت/ من عليا الجنان جداول تترقرق".. وها هو يستلهم نسمات النهر الخالد في أشعاره مثل قصيدته التي يقول فيها: "بالله يا نسمات النيل في السحر/ هل عندكن من الأحباب خبر؟!".
ويقول احمد شوقي أيضا: "ذكرت مصر ومن أهوى ومجلسنا/ على الجزيرة بين الجسر والنهر"، فيما أبدع قصيدة "النيل نجاشي" التي غناها موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب وصاحب أغنية "النهر الخالد" عن قصيدة الشاعر الكبير محمود حسن اسماعيل ضمن روائعه الغنائية والموسيقية مثل "الكرنك" للشاعر أحمد فتحي.
وإذ لقب عملاق آخر للشعر هو حافظ إبراهيم بـ"شاعر النيل"؛ يتجلى تأثير النيل في أوجه الحياة اليومية للمصريين وأدبهم في الكتاب الذي وضعته الراحلة الدكتورة نعمات أحمد فؤاد والتي لقبت بـ"عروس النيل"، بعنوان "النيل في الأدب الشعبي"، فالنهر العظيم حاضر دوما في ذكريات وابداعات مثقفين كبار مثل الراحلة العظيمة الدكتورة عائشة عبد الرحمن التي لقبت بـ"بنت الشاطيء"، فيما شبت عن الطوق ببلدتها دمياط ما بين هدير البحر المالح وعذوبة ماء النيل الخالد.
كما يحضر النيل في رواية "الأرض" التي أبدعها عبد الرحمن الشرقاوي، ناهيك عن ابداعات فنانين تشكيليين مثل الفنان الرائد محمود سعيد صاحب اللوحة الصرحية "المدينة"، ومحمد ناجي في لوحة "كوبري الجلاء" وأعمال تحية حليم في رحلتها للنوبة.
ولئن تحدث بعض المثقفين عن باريس بصورة أقرب للغزل، فيما تحظى "حدائق التويليري" الباريسية بجانب كبير من هذا الشغف كما يبدي البعض اعجابا بحدائق نهر الراين في ألمانيا والروابي الخضر المطلة على النهر، فإن العشق كله يبقى من نصيب الحدائق الخضراء لنهر النيل الخالد.
وإلى جانب الشباب؛ كثيرا ما يستعيد البعض من كبار السن بالشجن والحنين ذكريات الخطى العاشقة على العشب الأخضر أو لقاء مع الحبيبة على مقاعد خشبية واسمنتية تتناثر بتلك الحدائق الباسمة على ضفاف النيل الخالد بكل شاعرية المشهد وما تفجره من إبداعات في القصيد.
وعلى سبيل المثال، فمنذ شبابه الباكر في مدينة المنصورة التي كانت "خميلة شعرية جميلة"، التقى الشاعر الراحل صالح جودت شاعر "الأطلال"؛ إبراهيم ناجي وشاعر "الجندول" علي محمود طه، وشاعر "الأعراف" محمد الهمشري، وبدأ يتجه شطر شعر الحب والغزل ويناجي الحبيبة بقوله: "لك شعر ذهبي ساحر/ ضاع في موجاته قلبي وذاب".
والنيل يتردد في قصائد صالح جودت وعناوين دواوينه مثل "أغنيات على النيل"، و"الله والنيل والحب"، كما أنه حاضر في أعمال الكثير من المثقفين العرب مثل الأكاديمي والروائي المغربي الدكتور محمد برادة صاحب رواية مثل صيف لن يتكرر"، وهي عن حياته كشاب في قاهرة الخمسينيات والستينيات، بينما يستدعي بالحنين رحلته كطالب للأقصر وأسوان حيث النيل يتدفق كثيفا زاخرا.
وفي طرح حول العلاقات الثقافية بين مصر ولبنان، يلفت الدكتور عماد أبو غازي وزير الثقافة المصري الأسبق إلى "الأسطورة الأوزيرية" التي تقول ان ايزيس تتبعت تابوت زوجها الحبيب أوزيريس بعد أن خرج من نهر النيل إلى البحر الواسع متجها نحو الشرق "لتحتضنه شجرة أرز في مدينة جبيل اللبنانية".
وفي كتابه "الثوابت والمتغيرات في العلاقات المصرية السودانية"، أكد المؤرخ المصري الراحل الدكتور يونان لبيب رزق أن "ألف باء الجغرافيا السياسية" تشير إلى أن مصر والسودان هما "بلاد مصب" بالنسبة لنهر النيل وتتفق مصالحهما المائية رغم ما يحاول البعض الايهام به من تناقض تلك المصالح.
وفي مصر على وجه التحديد ارتبط النيل برسوخ مفهوم الدولة التي تعد أقدم دولة في التاريخ الانساني.. فلم تكن الدولة كفكرة وحاجة أو ضرورة موضع تساؤل، فهي بأي منظور تاريخي ومجتمعي استجابة مطلوبة لضرورات ملحة، ولم يكن السؤال حول الدولة كصيغة وإنما يمكن ان تطرح الكثير من الأسئلة حول مضمون الدولة ومحتواها وطبيعة علائقها.
وهنا يتجلى التأثير بالغ الأهمية لنهر النيل على طبيعة الحياة المصرية التي تستلزم وجود دولة مركزية تنظم قضايا الري وهي قضايا حياة أو موت، فيما رأى الراحل العظيم جمال حمدان أن الحضارة المصرية "ثمرة زواج موفق بين النيل أبي الأنهار ومصر أم الدنيا".
وقد تكون قراءة ما خطه قلم هذا المفكر الاستراتيجي دالة في ادراك أهمية توجه مصر على الصعيد الأفريقي منذ رحلات الفراعنة إلى بلاد بونت وتأثير الحضارة المصرية القديمة في أفريقيا حتى تلك المناطق الواقعة خارج حوض النيل، وهو تأثير انساب في أعماق القارة وسجله مستكشفون من الغرب بدهشة.
ومن بين المثقفين في الغرب الذين وقعوا في هوى مصر والنيل؛ الكاتبة البريطانية اميليا ادواردز؛ التي عاشت في القرن التاسع عشر وكانت غزيرة الانتاج وصاحبة اسم ذاع صيته في الغرب الثقافي كمحاضرة في علم المصريات.
والمثقفة البريطانية اميليا ادواردز؛ عاشقة مصر التي وهبت النيل عمرها، ولدت عام 1831 وعاشت في العصر الفيكتوري وقضت عام 1892 وهي التي أقامت في أرض الكنانة عامي 1873 و1874 وقامت برحلة نيلية من القاهرة إلى أبو سمبل.
ووصفت اميليا ادواردز هذه الرحلة بأنها "غيرت مجرى حياتها"، أما كتابها عنها فهو بعنوان :"ألف ميل صعودا في النيل"، فقد عرف طريقه فورا لقوائم أعلى مبيعات الكتب حينئذ، فيما يعاد طبعه حتى الآن بلوحاته البديعة.
ومن الدال أن يكون مفتاح الحياة الفرعوني رمزا إلى الكون ذاته والحضارة المصرية القديمة ونهر النيل الذي يعد شريان الحياة للمصريين، فيما استقبلت المكتبة الفرنسية مؤخرا طبعة جديدة من كتاب "النيل والحضارة المصرية" للكاتب والأكاديمي الكسندر مورت والذي يوضح العلاقة التي لا تقبل الانفصام بين النهر العظيم وكل تجليات الحضارة في مصر.
أما البريطاني توبى ويلكينسون الذي ولد عام 1969 وهو أستاذ بارز في علم المصريات ودراسات الحضارة المصرية القديمة بجامعة كامبريدج، فيلاحظ الثنائيات الحادة فى البيئة الجغرافية المصرية ما بين فيضان وجفاف.. وما بين أرض خصبة فى الدلتا ووادي النيل وصحراء قاحلة، معتبرا أن هذه المحددات الطبيعية الجغرافية عززت مدركات المصريين لرؤية العالم كمعركة مستمرة بين النظام والفوضى.
وفي كتاب صدر بالانجليزية بعنوان "النيل: مجرى النهر عبر مصر الماضي والحاضر"، يقول المؤلف توبي ويلكينسون إن مسيرة هذا النهر ارتبطت بصمود المصريين أمام الكثير من عاديات الدهر وقدرتهم على تجاوز كوارث عديدة بمرونة مدهشة.
والكتاب رحلة عبر التاريخ ومشهد النهر العظيم من أسوان للقاهرة ويبدو انه يعتزم أن يكملها حتى المصب في البحر المتوسط في كتاب قادم ليتوج مسيرة حافلة بالتفاصيل المشوقة من فجر التاريخ حتى راهن اللحظة المصرية، فيما يؤكد ويلكينسون الحقيقة التي لا مراء فيها وهي ان النيل واهب الحياة لمصر والمصريين الذين تفاعلوا معه بالكثير من الالهامات الثقافية في كتب ودراسات تحمل اسمه.
ويقدم ويليكنسون عبر رحلته النيلية اضاءات تاريخية موحية لعلاقة اسوان بالنيل معيدا للأذهان ان المصريين القدماء كانوا يعتقدون ان فيضان النهر يبدأ من تلك المنطقة، فيما يبحر وصولا للحاضر ليصف حكم الجماعة الفاشية التي أسقطتها ثورة 30 يونيو بأنه كان "حكما كارثيا".
والكتاب يربط بين أي حديث عن المستقبل المصري وبين نهر النيل ليؤكد حقيقة جلية وهي أن مياه النيل تشكل لمصر والمصريين "قضية حياة أو موت"؛ حتى أن الاحتلال البريطاني أقر بأن لمصر مصلحة حيوية في مياه النيل لا يمكن المساس بها.
ويتضمن الكتاب عرضا تاريخيا بديعا لوضع النيل بعد الاحتلال البريطاني لمصر في القرن التاسع عشر الذي شهد الرحلات الكشفية المصرية بامتداد مجرى النيل والعناية بمشاريع الري، فيما يؤشر للحظة الراهنة التي بات فيها النهر موضع جدل واهتمام بالغ سواء على مستوى النخب أو الشارع المصري.
وها هو توبي ويلكينسون يعيد في كتابه للأذهان أن الكثير من القوى الباغية حاولت كسر إرادة المصريين بالسيطرة على النهر العظيم ولكن كل هذه القوى اندحرت وسقطت وبقيت مصر كما استمر النيل يجري.
وبالانجليزية أيضا صدر كتاب "مستكشفو النيل.. مغامرة فيكتورية عظيمة بين النصر والمأساة"، بقلم تيم جيل الذي يروي قصة أولئك الأوروبيين الذين خاضوا صراعا رهيبا للوصول لمنابع النهر العظيم وبعد أن وصلوا اكتشفوا أن بطالمة مصر حددوا بحساباتهم الرياضية قبل زمن بعيد مواقع تلك المنابع.
انه كتاب يتحدث عن نهر النيل العظيم الذى لم يتوقف عن ممارسة سحره وسطوته على الرواد والمستكشفين الأوروبيين الكبار، فيما بدأ الأمر فى القرن التاسع عشر بسباق لحل "اللغز الجغرافى الأعظم" فى ذاك العصر واستمر السباق على مدى ما يربو عن مائة عام.
والواقع كما يقول تيم جيل في كتابه الجديد أن لغز منابع النيل ظل يلح على المستكشفين الأوروبيين وقبل ذلك على المصريين، فيما كان البعض يعتقد فى دهور سحيقة أن النهر المقدس يأتي من السماء.
وهو اللغز الذي شد مستكشفين أوروبيين مثل ريتشارد بورتون وجون هانينج سبيك وصمويل بيكر ودافيد ليفينجستون وهنري مورتون ستانلي ليجوبوا أواسط أفريقيا اعتبارا من منتصف القرن التاسع عشر وكل منهم تراوده الأماني وغواية الشهرة وأكاليل المجد إن تمكن من حل المعضلة والوصول لمنابع النهر العظيم.
وعبر صفحات الكتاب تتوالى صور ومشاهد نابضة بالحياة لدراما استكشاف منابع النيل بسرد مثير للمخاطر والتضاريس والمناخ والأمراض والحيوانات المفترسة والنساء الجميلات والأدلاء والمرشدين وشكوك ابناء الأرض السمراء فى هؤلاء القادمين من وراء البحار.
واذا كان المستكشف صمويل بيكر الذى كان يرعاه اللورد بالمرستون قد جوبه بالسؤال الأفريقي المتشكك في نواياه: "ما الذي تريده من النيل وما الذي ستفعله بالبحيرات العظمى إن وصلت لها؟"، فإن جون هانينج سبيك كان يحلم بأن يكون المستكشف الذي حل لغزا لم يحله من قبل أي مستكشف جغرافى آخر، فيما حرصت عائلته بعد وفاته على إضافة فرس النهر أو "سيد قشطة" لشعار النبالة وسجل شرف العائلة التي ينتمي لها رجل خاض أهوالا مدفوعا بقوة حلمه الكبير للوصول لمنابع النيل.
ويقول تيم جيل ان المفاجأة فى هذه الدراما الانسانية ان منابع النيل التى وصل لها لها جون هانينج سبيك كادت تكون هى التى حددها بطالمة مصر نظريا بسجلاتهم فى زمن بعيد، ومن هنا فإن هذه المفاجأة المصرية البطلمية كادت من الناحية العلمية الجغرافية تقضى على أي انجاز حقيقي أو مفاجأة جغرافية للبريطاني سبيك.
ويميز المؤلف بين مرحلتين فى جهود استكشاف منابع النيل: المرحلة الأولى كما يقول اتسمت بالبراءة والفضول المعرفى والتنافس الشريف لاستكشاف مجاهل افريقيا، فيما سادت في المرحلة الثانية دوافع الطمع والجشع والرغبة في السيطرة والاحتلال.
ويسرد جيل في كتابه المشوق قصص التنافس المرير بين هؤلاء المستكشفين القادمين من أوروبا للوصول إلى منابع النيل، وهو تنافس أذكته شركات ووكالات السفر والرحلات، فيما دفع البعض حياته ثمنا لهذا الصراع الرهيب والرغبة في اقتناص الجوائز الموعودة لمن يصل أولا إلى منابع النهر والتي دفعت المستكشفين للتشهير ببعضهم البعض.