• شم النسيم
    شم النسيم


كتب: حسام إبراهيم

يشكل الاحتفال اليوم "الاثنين" بشم النسيم علامة دالة على معنى الثقافة الغذائية للمصريين كشعب واحد في وطن واحد تضرب جذوره العريقة في أعماق التاريخ فيما باتت الثقافة الغذائية للشعوب موضع اهتمام لافت في منابر الثقافة الغربية وصحف كبرى وشهيرة في الغرب.
وإذا كان الطعام في الثقافة الغربية كما هو في ثقافات عديدة يقترن بقدر من البهجة كما يؤشر كتاب صدر بالإنجليزية لكين البالا وعنوانه "قاريء تاريخ الغذاء : مصادر أساسية" فإن طعام شم النسيم يشكل بحق إسهاما مصريا أصيلا وخالدا في العلاقة بين الطعام والبهجة.
ومؤلف الكتاب مؤرخ متخصص في تاريخ الغذاء وهو في هذا الكتاب يتطرق لطقوس البهجة عندما يجتمع البشر معا لتناول الطعام كما يتحدث عن اتجاهات الثقافات المختلفة حيال الغذاء.
ويوضح كين البالا أن "الغذاء يساعد في تعريف الهوية" فيما التاريخ الغذائي لمجموعة إنسانية ما يكشف الكثير عن ثقافتها ويتوغل من منظور تاريخي ثقافي في ألوان الطعام لأرض الرافدين ومصر القديمة والإغريق والرومان وانجلترا في العصر الفيكتوري محتفلا بحب الإنسان للطعام عبر الزمان والمكان.
ولئن توغل كين البالا في تاريخ مصر ضمن سعيه المعرفي لتحديد العلاقة بين الغذاء والهوية فها هي الصحف ووسائل الإعلام المصرية تتبارى الآن في بث ونشر أخبار وتحقيقات ملونة بألوان غذاء شم النسيم من بيض ملون وبصل وليمون وملانة وخس ناهيك عن الفسيخ والملوحة والرنجة وسائر أنواع الأسماك المملحة والمدخنة ومختلف مأكولات شم النسيم التي يتناولها المصريون اليوم في المنازل والحدائق العامة وعلى ضفاف النيل وشطي البحرين المتوسط والأحمر.
ولأن هذه المأكولات في شم النسيم جزء أصيل من الثقافة الغذائية للمصريين وتضرب بجذورها في أعماق تاريخهم فلن تفلح كثيرا أي تحذيرات من تناول الفسيخ مثلا، فضلا عن أن طعام المصريين في هذا اليوم يحمل دلالات ثقافية وروحية من بينها أن البيض الملون فضلا عن الأسماك المملحة والمحفوظة تشير إلى أن أجساد البشر ستبعث من جديد يوم القيامة.
وضمن تجليات متعددة للثقافة الغذائية للمصريين وخاصة في أعيادهم واحتفالاتهم مثل احتفالهم اليوم بشم النسيم تبرز أسماء مدن وبلدات في أرض الكنانة كمدينة نبروة الشهيرة في عالم صناعة الفسيخ الذي يصنع من أسماك البوري الممتاز وكذلك السردين والأسماك المملحة على وجه العموم.
ولاريب أن سكان هذه المدينة الواقعة في محافظة الدقهلية والتي تضم عشرات المصانع والمحال المتخصصة في إنتاج وبيع الفسيخ ينظرون لشم النسيم باعتباره الموسم الأكثر أهمية في حياتهم الاقتصادية.
ورغم الارتفاع الملحوظ في أسعار الفسيخ وبقية أنواع الأسماك المملحة والمدخنة فإن أصحاب المحال التجارية المتخصصة في بيع هذه الأسماك أكدوا لصحف ووسائل إعلام أن هناك زيادة في الإقبال على الشراء بمناسبة شم النسيم وخاصة بالنسبة للفسيخ والملوحة والرنجة والسردين.
غير أن هذا الارتباط العضوي بين مأكولات شم النسيم والثقافة الغذائية للمصريين لا يحول أبدا دون انتهاج السبل السليمة والوسائل الناجعة صحيا في تمليح وحفظ الأسماك والإصغاء لإرشادات ونصائح خبراء التغذية حول أفضل السبل والوسائل لدرء أي مخاطر أو متاعب صحية.
ويقول أطباء وخبراء في السلامة الغذائية إن الإفراط في تمليح الأسماك بمستويات مرتفعة من الملوحة يفضي لمشاكل صحية لمرضى القلب والمصابين بالضغط المرتفع واختلالات في وظائف الكبد والكلى.
إلا أن الأخطر في هذا السياق يكمن في تلوث الأسماك ببعض أنواع البكتيريا جراء عدم اتباع السبل السليمة والضرورية أثناء مراحل النقل والتمليح والتخزين، فضلا عن انخفاض مستوى التمليح ناهيك عن الأسماك مجهولة المصدر.
وفي سياق استعدادات مجابهة أي حالات تسمم غذائي ..قامت وزارة الصحة بتوفير المستلزمات الطبية بمراكز السموم كما أعلنت عن إعداد فرق للانتشار السريع من أطباء الرعاية الحرجة والعاجلة مع رفع درجة الاستعداد بالمستشفيات.
وفيما أضحت الثقافات الغذائية للشعوب موضع اهتمام لافت في الصحافة الغربية كان من الطريف أن تنشر صحيفة نيويورك تايمز موضوعا عن التمر كغذاء عربي أصيل وأن تتحدث جوليا موسكين في هذا الموضوع عن "التمر بالكريم والفستق المبشور" وتستعرض انهماك ربات البيوت العربية في أفانين المأكولات.
ومع اقتراب شهر رمضان الفضيل لاحظت الصحيفة الأمريكية الشهيرة أن التمر علامة رمضانية أصيلة كما أنه يوحد غذائيا كل المسلمين مهما تناءت أماكن إقامتهم في الدنيا الواسعة مشيرة إلى أن النخيل وهو مصدر البلح يرمز ثقافيا للحفاوة والكرم والطمأنينة والسلام.
ولفتت "نيويورك تايمز" إلى أن المسلمين في كل أنحاء العالم يحرصون على بدء إفطارهم بتناول التمر تأسيا واقتداء بالرسول الكريم محمد (صلى الله عليه وسلم) فيما تتفنن بعض الفنادق والمطاعم التي يرتادها المسلمون في الغرب في تقديم التمر بصيغ متنوعة وحداثية غير أن المبدأ الرئيسي يبقى :" لا إفطار بلا تمر".
وإذا كانت صحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية قد أبدت كل هذا الاهتمام بالثقافة الغذائية الرمضانية فلن يكون من الغريب أن تتبارى الصحف ووسائل الإعلام المصرية والعربية في تقديم الوصفات بمجرد حلول شهر رمضان لأشهى المأكولات على المائدة الرمضانية من المحاشي وطاجن البامية باللحم حتى "طاجن الدجاج بالزيتون والطماطم" و"العجة الأسبانية" مع مواضيع وتحقيقات طريفة عن "بتاو الصعيد" و"بط دمياط" و"الفطائر السيناوية المصنوعة من الطحين والسمن" ناهيك عن "الفتة التي يعلوها الأرز واللحم واللوز وحمص الشام".
وإذ يسعى بعض مشاهير الطهاه العرب لتقديم الأطباق التقليدية في قالب عصري وانتقل بعضهم لكبريات مدن الغرب مثل لندن ونيويورك وباريس وباتوا معروفين في أوساط "ذواقة الأكل" فإنهم في الواقع "سفراء للأطباق العربية في الغرب".
وتحفل الصحافة الثقافية الغربية بعروض لكتب جديدة تتناول بجدية وطرافة معا جوانب متعددة لثقافة الغذاء وهو شىء مختلف إلى حد بعيد عن كتب المطبخ التي تصدر بالعربية وتحقق مبيعات عالية قد تثير لوعة كبار الكتاب أو الطرق المبتكرة والوصفات المتعددة للمأكولات التي قلما تخلو منها صحيفة أو مجلة عامة أو قناة تلفزيونية.
وفي كتابه "الجغرافيا الثقافية" يؤكد مايك كرانج الأستاذ في جامعة دورهايم البريطانية على "المعنى الثقافي" للطعام .. موضحا أن المأكولات علامات واضحة على الثقافات المختلفة حول الكرة الأرضية .. ويضيف أنه كثيرا ما يطلب من طلابه أن يتأملوا من أين جاءتهم أخر وجبة لأن اقتفاء أثر كل المواد المستعملة في إنتاج تلك الوجبة يكشف عن علاقة اعتماد على عالم بأسره من العلاقات وشروط الإنتاج.
لكن كتاب البروفيسور كرانج لم يتطرق لقصة "البط الدمياطي" في رمضان حيث يندر أن تخلو أي مائدة إفطار في أول أيام الشهر الفضيل بهذه المحافظة المصرية من البط وبما يشكل بامتياز "ثقافة غذائية مميزة لأبناء دمياط" حتى أن النظرة الشعبية لعدم تناول البط في اليوم الأول من رمضان تعني أن هناك شيئا جوهريا مفقودا.
والطريف أن ثورة الاتصالات لم تكن بعيدة عن "البط الدمياطي في رمضان" فها هي بعض المحال المتخصصة في هذه الوجبة الرمضانية تعلن عن منتجاتها على مواقع التواصل الاجتماعي والهواتف المحمولة عند حلول الشهر الكريم.
وإذا كان ارتفاع أسعار الأسماك المملحة هذا العام لم يحل دون إقبال المصريين في شم النسيم على شراء الفسيخ والملوحة والسردين فمن المشكوك فيه أيضا أن يفضي ارتفاع أسعار البط الدمياطي للتأثير سلبا على هذا النوع من الثقافة الغذائية عند حلول شهر رمضان الفضيل حيث تتجلى العلاقة بين الثقافة والغذاء والهوية في تلك الأيام المباركة أو التي يصفها التعبير المصري الدارج والعبقري "بالأيام المفترجة".
وتتجلى العلاقة بين الثقافة والمثقفين الكبار والغذاء في موائد تفنن في إعدادها لفيف من "الآباء الثقافيين" مثل العلامة المصري الراحل محمد محمود شاكر بينما كان الأديب النوبلي المصري نجيب محفوظ يضحك كلما تذكر أول مبلغ دخل جيبه من إنتاجه الإبداعي في الكتابة حيث أنفق المبلغ في "عزومة كباب لأصدقائه المقربين من الحرافيش".
وكثير من كبار المثقفين المصريين والعرب أطلقوا على الطعام الذي كانوا يتناولونه في بيت العلامة محمد محمود شاكر اسما دالا وطريفا وهو "طعام أهل الجنة" لما كانت هذه المائدة تتضمنه من ألوان الطعام الشهي.
وللطعام والمطاعم مكانة يحتفي بها كثير من المبدعين في الغرب كما يتجلى على سبيل المثال في كتاب "أنا فيلليني" عن مسيرة المخرج والكاتب السينمائي الإيطالي الراحل فيديريكو فيلليني حيث يصف علاقته الوثيقة مع الممثل الشهير مارشيلو ماستروياني وبطل فيلمه "حياة حلوة" بأنها بدأت من "علاقة مطعمية".
طريف ما يقوله فيلليني في هذا السياق عن علاقته بماستروياني :"كنا نلتقي عادة في المطاعم وكان يأكل الكثير من الطعام دائما وقد لاحظت ذلك لأن بيني وبين محبي الأكل صلة طبيعية ويمكنك أن تميز الشخص الذي يحب الطعام لا من خلال الكمية التي يستهلكها بل من خلال استمتاعه وتلذذه بما يأكل".
ومن الطريف أيضا أن اللقاء تكرر كثيرا في المطاعم بين فيلليني وشارلوت شاندلر مؤلفة هذا الكتاب ولم تكن "البيتزا" الإيطالية الشهيرة بعيدة عن ذكريات فيلليني في سياق حديثه عن بلدته "ريميني" التي زارها بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية بعد أن غادرها في شرخ الشباب لروما.
وها هو يقول :"تنامت ريميني وأعيد بناؤها بعد القصف ولكن على نحو مختلف. كان مستحيلا إعادة ما ينتمي إلى العصر الوسيط لذلك فهى أشبه ما تكون بالمدن الأمريكية. ومع أن إعادة البناء جرت بمساعدة الولايات المتحدة فإن الأمريكيين غير مسؤولين عن البيتزا الرديئة. لقد تغيرت ريميني من غير إذن مني".
إنه فيلليني عملاق الفن السابع الذي يقول :"خلال الحرب العالمية الثانية والفترة التي أعقبتها كنت أكتب في المطبخ لأدفيء نفسي قرب موقد الطبخ وقد يكون لذلك تأثير في كتابتي آنذاك وإن صح هذا فإنني أتركه لأولئك الذين يحبون التأمل في الماضي وإن كنت لا أحب أن يبدد طالب أيام شبابه في كتابة أطروحة عن كتابات فيلليني في المطبخ"!.
بل إن روما التي وقع في هواها من أول نظرة اقترنت في البداية كمدينة في ذهنه بالطعام كما يقول :"لما رأيتها أول مرة انطبع في ذهني أن الناس فيها يأكلون في كل مكان متلذذين بأشياء بدت شهية للغاية . نظرت من نوافذ المطاعم إلى المعكرونة وهي تلف على الشوكات.رأيت أنواعا من المعكرونة أكثر مما كنت أعرف.كانت هناك محلات الجبن المتلألئة ورائحة الخبز الساخن المنتشرة من المخابز وحوانيت المعجنات".
وفيما قد يستعيد البعض هنا بالحنين "ذكريات مطبخ ابلة نظيرة" أو نظيرة نيقولا صاحبة أول وأشهر موسوعة عربية في المطبخ وفنون الطهي والتي تعد علامة مصرية في الثقافة الغذائية إبان القرن العشرين قد يحق التوقف عند مغزى كتاب جديد صدر بالإنجايزية عنوانه "براعة فن الطبخ السوفييتي".
وفي هذا الكتاب تتناول المؤلفة انيا فون بريمزين أفانين وألوان المطبخ والمأكولات في عصر الاتحاد السوفيتي قبل أن يدخل في ذمة التاريخ ليكون المطبخ السوفيتي جزءا لاغنى عنه من التأريخ الثقافي الشامل لهذا العصر.
ولم يجد الصينيون في سياق رغبتهم الملحة في الترويج لمبادرة "أحياء طريق الحرير وإنشاء الحزام الاقتصادي للدول الواقعة على هذا الطريق" أفضل من الغذاء أو ما وصفه البعض "بدبلوماسية المطبخ".
وهكذا نظم الصينيون "أسبوعا لمطبخ دول طريق الحرير" بمدينة يانغتشو في ذكرى مرور 2500 عام على تأسيس هذه المدينة التجارية وذات "المطبخ المميز" شاركت فيه 27 دولة بمأكولاتها الشعبية ومنتجاتها الغذائية فيما كان الطهاة من الدول المختلفة يتبارون في تقديم أفضل الأطباق المعبرة عن الثقافات الغذائية لتلك الدول.
وفي ظل العولمة .. أضحت كل نكهات العالم في شوارع المدن الكبرى وتنتشر المطاعم القادمة بمطابخ ما وراء البحار فيما يتأمل مايك كرانج مؤلف كتاب الجغرافيا الثقافية فيما يسميه "بتسويق تداعيات معاني المكان".
ويرى مايك كريج أن مطاعم مدينة مثل نيويورك تشكل مكانا للتدفقات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية مضيفا :"المطعم كمكان تحدث فيه المنتجات الثقافية وتتكاثر وتتخطى الحدود القومية" فيما يتوقف مليا أمام سلاسل مطاعم المأكولات السريعة التى تعبر عن الثقافة الأمريكية.
وفي المقابل .. فإن بعض العقول التي تعمل في ثقافة الغذاء بالمعنى الواسع في مصر والعالم العربي عمدت للتركيز على الأكلات المصرية والشرقية في مطاعم بدت وكأنها نوع من الاستجابة لتحدي انتشار ثقافة المأكولات السريعة.
وتنزع هذه المطاعم التي ترفع شعار الأصالة و"أكل زمان" لاختيار مسميات مصرية وشرقية خالصة بل إن بعضها يستعير أسماء أماكن وشخصيات وردت في أعمال لكبار الكتاب المصريين والعرب وخاصة أديب نوبل الراحل نجيب محفوظ دون أن تتنازل عن الاستفادة بمنجزات الحداثة مثل التواصل الالكتروني عبر شبكة الإنترنت مع الزبائن الذين تهفو بطونهم "لطاجن عكاوي أو بطاطس باللحمة أو بط محشو ناهيك عن الأرز المعمر".
وسواء كان الحديث عن الفسيخ والسردين أو طاجن العكاوي والأرز المعمر ستجد هوية مصر التي يحتفل شعبها اليوم بشم النسيم وهو في الواقع احتفال بهويتها العريقة وتاريخها المجيد ومعنى الشعب الواحد في الوطن الواحد..إنها مصر تتحدث عن نفسها وطعامها شهد الأفواه وزاد الأرواح وبهجة القلوب..هنا بدأ التاريخ وهنا شعب مازال يصنع التاريخ !.