• السباق الرئاسي الفرنسي
    السباق الرئاسي الفرنسي


تقرير: هبه الحسيني... (مركز أبحاث ودراسات الشرق الأوسط)
عشرة أيام تفصلنا عن الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية الفرنسية، ولا تزال أجواء التردد والغموض تهيمن على المشهد الانتخابي الذي يتبدل بين ليلة وضحاها على نحو غير مسبوق لم تشهده فرنسا من قبل في تاريخها الانتخابي.
وتتوقع آخر استطلاعات الرأي تقدم كل من مرشح الوسط ايمانويل ماكرون، ومرشحة اليمين المتطرف مارين لوبن، في الجولة الأولى من الانتخابات، بحصول كل منهما على 24% من نوايا الأصوات، بينما قفز مرشح اليسار الراديكالي جان لوك ميلونشون ليحتل المرتبة الثالثة بحصوله على تأييد 18% من الناخبين، متقدما بذلك على المرشح اليميني فرنسوا فيون الذي تراجعت شعبيته إلى 17%، في الوقت الذي جاء المرشح الاشتراكي بونوا هامون في مؤخرة السباق بحصوله على 8% فقط من نوايا الأصوات.
وقبل أيام قليلة على الانتخابات الرئاسية الفرنسية، التي تُعقد الجولة الأولى منها في الثالث والعشرين من أبريل والثانية في السابع من مايو، يبدو واضحا أن المشهد الانتخابي هذا العام يختلف عن أي مشهد شهدته البلاد من قبل، حتى أن كثيرا من المراقبين قد وصفوه بالـ"الاستثنائي" حيث إنه خالف كافة المعايير المتبعة في الانتخابات السابقة ويتضح ذلك في العديد من المظاهر.
ويتمثل المظهر الأول في تغير موازين القوى السياسية داخل المشهد الانتخابي؛ فمنذ عقود طويلة دأب الفرنسيون على أن يكون السباق الرئاسي منحصرا بين معسكري اليمين واليسار، وخلال السنوات الأخيرة اكتسب اليمين المتطرف شعبية ملحوظة غير أنها لم تسمح لمرشحيه بتخطي عتبة الجولة الأولى من الانتخابات إلا مرة واحدة عام 2002 عندما تأهل جون ماري لوبن للجولة الثانية ومٌني وقتها بهزيمة ساحقة أمام اليميني جاك شيراك الذي فاز بحصوله على 82% من إجمالي الأصوات.
أما المشهد الانتخابي الحالي فيكشف عن ظهور قوى جديدة ومفاجئة داخل السباق الرئاسي؛ فمن ناحية، نجحت مارين لوبن في تعزيز شعبية حزبها "الجبهة الوطنية" واستقطاب شريحة واسعة من الناخبين مستغلة في ذلك استياء المواطنين من تفاقم أزمة الهجرة وتصاعد الهجمات الإرهابية التي تعرضت لها البلاد على مدار السنوات الأخيرة، الأمر الذي ساهم في تصاعد شعبيتها وتصدرها استطلاعات الرأي لأول مرة في تاريخ الجمهورية الفرنسية.
من ناحية أخرى، نجح الوسطي إيمانويل ماكرون في تحقيق تقدم ملحوظ على المستوى الشعبي في وقت قياسي جعله يتصدر استطلاعات الرأي مع منافسته لوبن. ويعد ماكرون حديث العهد بالسياسة حيث كان يعمل من قبل مصرفيا، ثم شغل منصب وزير الاقتصاد لمدة سنتين خلال فترة الرئيس الحالي فرنسوا أولاند إلى أن استقال في أغسطس الماضي وترشح للرئاسة. وعلى الرغم من ذلك، تمكن ماكرون من تأسيس حزب جديد "فرنسا إلى الأمام" ليصل عدد المنتسبين إليه أكثر من 200 ألف عضو خلال أقل من 6 أشهر، وليتمكن من جمع آلاف المؤيدين في ندواته الانتخابية التي يشدد فيها على الجمع بين اليمين واليسار، فهو يبدو كشخصية سياسية "متنوعة" تحاول جمع المؤيدين من كافة التيارات.
إضافة إلى ذلك، فإن الوجوه التي تمثل الأحزاب التقليدية في السباق الانتخابي الحالي جاءت مخالفة لتوقعات مختلف المراقبين واستطلاعات الرأي؛ حيث أسفرت الانتخابات التمهيدية، التي أجريت في اليمين واليسار نهاية 2016 ومطلع 2017، عن هزيمة مفاجئة للمرشحين الأوفر حظا في المعسكرين: رئيس الوزراء اليميني السابق آلان جوبيه ورئيس الوزراء الاشتراكي السابق مانويل فالس، وفوز كل من فرنسوا فيون لليمين وبنوا هامون لليسار.
أما المؤشر الثاني الذي يميز تلك الانتخابات عن سابقاتها، هو حالة التردد غير المسبوقة السائدة بين الناخبين الفرنسيين. فقد أظهرت استطلاعات الرأي أن حوالي 38% من الفرنسيين لم يحسموا خيارهم بين المرشحين، ولا يعرفون ما إذا كانوا سيتوجهون إلى صناديق الاقتراع أم لا.
ولم تشهد فرنسا من قبل نسبة ناخبين مترددين مماثلة لما هي عليه اليوم، قبل أيام قليلة على الاستحقاق الرئاسي، وهي نسبة قياسية لانتخابات رئاسية تنجح عادة في تعبئة حوالي 80% من الفرنسيين.
وتحظى هذه المسألة بأهمية ملحوظة في السباق الرئاسي؛ حيث يتصارع المرشحون بقوة على كعكة المترددين من بين الناخبين الفرنسيين الذين لم يحسموا خياراتهم الانتخابية، وهو ما يؤكد أن المشهد الانتخابي الحالي أكثر ترددا من أي انتخابات أخرى شهدتها البلاد من قبل كان يسيطر عليها الحزبان الكبيران من اليمين واليسار.
كما تهيمن حالة من الاستياء والغضب على مزاج الناخب الفرنسي؛ حيث أظهر استطلاع الرأي "ايبسوس/سوبيا سيتريا" أجري في 11 أبريل أن 67% من الفرنسيين يشعرون بالخيبة والغضب من الحملة الانتخابية، وأن 64% منهم لم تفيدهم الحملة في معرفة معلومات مهمة عن المرشحين وبرامجهم الانتخابية. كما كشف استطلاع آخر للرأي "يو جوف" أن 20% من الفرنسيين لديهم استعداد قوي لمغادرة بلادهم إذا ما جاءت نتيجة الانتخابات الرئاسية غير مناسبة لهم.
أما المؤشر الثالث الذي يضيف خصوصية لتلك الانتخابات، فهو الصفة المتقلبة للانتخابات الرئاسية. فالمشهد الانتخابي يتبدل يوما تلو الآخر نتيجة تسارع وتيرة المستجدات التي تطرأ على الساحة السياسية والتقلبات في المواقف التي تلقى اهتماما كبيرا في الأوساط الانتخابية. فعلى سبيل المثال، بعد أن كان المرشح اليميني فرنسوا فيون هو الأوفر حظا للفوز بالاستحقاق الرئاسي، تراجع التأييد له بعد اتهامه بجرائم فساد استفادت منها زوجته وأولاده. كما تمكن مرشح اليسار الراديكالي ميلونشون من تحقيق قفزة من المركز الخامس إلى المركز الثالث في استطلاعات الرأي خلال أقل من شهر بفضل شخصيته وأسلوبه في التعبير خلال المناظرات التلفزيونية وتبنيه مواقف قوية حتى لو كانت مواقف أقلية، مما جعله يشكل تهديدا حقيقيا للمرشح اليميني فيون.
وفي ضوء ما سبق، يبدو المشهد الانتخابي الفرنسي شديد التقلب إلى حد يصعب معه رسم سيناريوهات واضحة المعالم لما سيكون عليه مستقبل فرنسا في ظل الرئيس المقبل. فالغموض يهيمن على تلك الانتخابات لدرجة أنه لا يمكن حتى للمرشحين الأوفر حظا في استطلاعات الرأي، الجزم بأنهم سيعبرون إلى الجولة الثانية. وفي ظل هذه الأجواء تبقى جميع الاحتمالات واردة، غير أن فريقا واسعا من المراقبين ذهب إلى ترجيح هزيمة أكبر حزبين تقليديين من اليمين واليسار بالنظر إلى تراجع شعبية كل من فيون وهامون، وهو ما يعني بدوره وصول لوبن أو ماكرون إلى سدة الرئاسة، الأمر الذي سيؤدي إلى تغير وجه فرنسا على نحو غير مسبوق.