• الاتحاد الأوروبي
    الاتحاد الأوروبي
  • البريكست
    البريكست


القاهرة .. هبه الحسيني (مركز أبحاث ودراسات الشرق الأوسط)

ثلاث سنوات مرت اليوم على استفتاء "البريكست"، أو خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، والذي أحدث وقتها مفاجأة مدوية هزت مختلف الأوساط الأوروبية والدولية، لتبدأ منذ ذلك الحين سلسلة من الأزمات تدور فيها بريطانيا والاتحاد الأوروبي في حلقة مفرغة دون الوصول إلى حل نهائي يحسم عملية الخروج ويحدد شكل العلاقات المسقبلية بين الجانبين.

فمع الذكرى الثالثة لهذا الاستفتاء المصيري الذي صوت فيه 52% من البريطانيين لصالح الانفصال، منهيين بذلك عضوية بلادهم لأكثر من أربعين عاماً، تقف بريطانيا اليوم في مفترق الطرق فهي من ناحية لم تنجح في إبرام اتفاق ينظم خروجها من الاتحاد الأوروبي ويحدد شكل علاقتها معه مستقبلا، ومن ناحية أخرى تقف عاجزة غير قادرة على التراجع وإجراء استفتاء آخر قد يأتي بنتائج مغايرة للاستفتاء الأول ويبقي على عضويتها داخل التكتل الأوروبي.

وعلى مدار الثلاث سنوات الماضية شهدت الساحة البريطانية العديد من الأزمات والمعارك سواء في الداخل البريطاني أو على صعيد العلاقات مع الاتحاد الأوروبي. فبعد أن أجرى رئيس الوزراء البريطاني الأسبق، ديفيد كاميرون، استفتاء الانفصال عام 2016 وصوت فيه الناخبون لصالح الانسحاب، تنحى كاميرون عن زعامة حزب المحافظين ، لتخلفه تريزا ماي في رئاسة الحكومة والحزب، وبدا واضحا منذ اليوم الأول لولايتها أن مهمتها الرئيسية تتركز في تنفيذ رغبة البريطانيين بالخروج من الاتحاد الأوروبي.

ولكن المهمة لم تكن بالأمر السهل وبدت أصعب بكثير من قدرة ماي، فطوال الثلاث سنوات الماضية واجهت رئيسة الوزراء البريطانية تحديات عثرة وقفت عائقا في طريق البريكست كان أولها خسارة حزب المحافظين الذي تتزعمه ماي للأغلبية في البرلمان، وهو ما شكل تحديا أمامها لاستكمال مسار المفاوضات مع الاتحاد الأوروبي ولكنها نجحت في التحالف مع الحزب الاتحادي الديمقراطي الأيرلندي.
وبدا أن ماي تخوض حربا على جبهتين، إذ تقود مفاوضات شاقة مع الأوروبيين، الذين بدوا أكثر تشددا في المفاوضات، وعلى الجبهة الأخرى كان يجب عليها إقناع أعضاء البرلمان البريطاني، بمن فيهم نواب من حزبها، على تفاصيل خطة الانسحاب من الاتحاد الأوروبي.

وتعرضت ماي إلى كثير من المواقف الصعبة، كان أبرزها تصويت البرلمان البريطاني لسحب الثقة منها في ديسمبر الماضي، والذي نجت منه بمعجزة، وكان سببه اعتراض أعضاء حزب ماي من طريقة إداراتها للمفاوضات مع الاتحاد الأوروبي، معتبرين أنها "فشلت" في دفع التكتل إلى تقديم تنازلات تصب في مصلحة بريطانيا.
وتصاعدت حدة الخلافات داخل حزب المحافظين الحاكم حتى وصل الأمر إلى استقالة 21 وزيرا من حكومة ماي في فترة زمنية قصيرة اعتراضا على خطة "البريكست".
وبعد جولات شاقة من المفاوضات، نجحت ماي في نوفمبر الماضي في التوصل إلى اتفاق مع الاتحاد الأوروبي، على أن يبدأ موعد تنفيذ الخروج في 29 مارس الماضي. ونص الاتفاق على مرحلة انتقالية تنتهي في ديسمبر 2020، سيكون على بريطانيا خلالها الاستمرار بدفع مساهمتها المالية في الاتحاد ودفع مستحقات تصل إلى 45 مليار يورو، إلى جانب الاتفاق بشأن الحدود بين أيرلندا الشمالية وأيرلندا، وحرية التنقل لمواطني الاتحاد وبريطانيا خلال الفترة الانتقالية.
وبعد هذه الجولات الشاقة والطويلة، لم تنجح ماي في إقناع نواب البرلمان البريطاني بالموافقة على تمرير الاتفاق، مما مهّد الطريق أمام رحيلها عن رئاسة الحكومة، لتدخل بريطانيا من جديد في حلقة مفرغة.

ويخيم على المشهد البريطاني حاليا الكثير من الضبابية والغموض. فبعد استقالة ماي، تتنافس قيادات حزب المحافظين لتولي رئاسة الحزب والحكومة، ومن المقرر أن يتواجه وزير الخارجية البريطاني السابق بوريس جونسون مع وزير الخارجية الحالي جيرمي هانت في الجولة الأخيرة من انتخابات حزب المحافظين التي ستحدد من سيتولى منصب رئيس الحكومة الجديد، والذي من المقرر أن يتسلم مهام منصبه بنهاية يوليو المقبل.

ويؤكد المراقبون أن أمام رئيس الحكومة الجديد مهمة شاقة لتنفيذ "البريكست" حيث أن جميع السيناريوهات المطروحة أمامه تبدو شديدة التعقيد. فمن ناحية، من المستبعد طرح سيناريو إعادة التفاوض مع بروكسل حول شروط الخروج خاصة بعدما أعلن رئيس مفوضية الاتحاد الأوروبي جون كلود يونكر، أول أمس في ختام القمة الأوروبية ببروكسل، عن إجماع الدول الأعضاء ال 27 على موقفهم بشأن عدم إعادة التفاوض حول اتفاق انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي بغض النظر عمن سيأتي خلفا لرئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي قائلا "إننا مستعدون لمناقشة العلاقة المقبلة بين المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبى حال تطور موقف بريطانيا، لكن اتفاق الانسحاب غير مطروح للتفاوض مجددًا".
ويرجع هذا الموقف الأوروبي المتشدد إلى أن كثير من القادة الأوروبيين ينظرون إلى "البريكست" باعتباره مسألة مصيرية بالنسبة للمشروع الأوروبي، فهم يتخوفون من أن يؤدي الخروج السهل لبريطانيا إلى تشجيع دول أخرى على تقديم طلبات جديدة للانفصال، أو الحصول على تنازلات للبقاء. لذا فإن استراتيجية المسئولين الأوروبيين تعتمد على أن تختار بريطانيا بين البقاء في الاتحاد الأوروبي دون تنازلات، أو الخروج منه بثمن مرتفع جدًّا.

من ناحية أخرى، يبدو أن سيناريو "الخروج دون اتفاق" من أصعب السيناريوهات التي قد يواجهها رئيس الحكومة المقبل لما يحمله ذلك من تداعيات خطيرة على الأسواق البريطانية، وعلى حقوق المواطنين البريطانيين المقيمين في دول الاتحاد الأوروبي.

ويؤكد خبراء الاقتصاد أن أزمة البريكست الحالية تسببت في أضرار متعددة على الاقتصاد البريطاني، سواء فيما يتعلق بتراجع الجنيه الاسترليني، وانخفاض الاستثمارات، وهروب الشركات ورؤوس الأموال إلى مدن أوروبية أخرى، محذرين من أن استمرار هذا الوضع المتأزم قد يتسبب في حدوث أزمة مالية قد تكون أسوأ من أزمة عام 2008، وقد يدخل الاقتصاد في ركود شديد مع تراجع النمو من معدل سنوي يبلغ حوالي 2٪ إلى أقل من 1٪ حاليا.

مما سبق يمكن القول أنه، بعد ثلاث سنوات من استفتاء "البريسكت"، فإن مسألة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي لم تكن بتلك البساطة التي بدت عليها أو ربما كان يتصورها الناخبون البريطانيون حينها، فالمشهد يبدو معقدا ومفتوحاً على العديد من السيناريوهات، والمستقبل يكتنفه الكثير من الغموض ولا أحد يعرف ما ستؤول إليه الأوضاع في بريطانيا. ولكن ما يجمع عليه المراقبون أن "البريكست" سيظل يشكل علامة فارقة في تاريخ القارة الأوروبية، وأنه في حالة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي دون اتفاق فإن ذلك ستكون له أضرار جسيمة على الطرفين، وستكون بمثابة "جرس إنذار" لأي دولة تفكر في الانفصال عن الكتلة الأوروبية.