أغرا (الهند) في 26 يونيو /أ ش أ/ من: بسنت مصطفى
وسط إيقاع زمن تتسارع فيه الخطى وتتوارى فيه المشاعر، يقف "تاج محل" صامدًا كدليل على أن بعض العهود لا يطويها الزمن وأن بعض الحكايات تختار أن تعيش للأبد.
فعلى ضفاف نهر "يامونا"، ينطق الرخام الأبيض ليروي في صمت قصة وفاء تجاوزت الحياة والموت كتبها "شاه جهان".
"تاج محل" ليس مجرد صرح من رخام أبيض على ضفة نهر، بل حكاية ورسالة للحب عبر الزمان ورمز للوفاء الأبدي، بنته يد ملك حزين، لم يصنع منه قبراً بل خلد به الحياة فأصبح ليس فقط أشهر معالم الهند بل بات يمثل صورتها في المخيلة العالمية.
وتقول موفدة وكالة أنباء الشرق الأوسط إلى الهند، إنه وأمام البوابة الجنوبية التي تفتح على حدائق متناظرة، يصمت الجميع، تسكتهم رهبة اللون الأبيض، وامتداد الظلال الطويلة على الرخام.
هنا، امرأة تمسك يد زوجها في هدوء، رجل يخرج كاميراه دون أن يتحدث، وهناك أم تشرح لطفل يرفع رأسه مبهورًا بقبة لم يرى مثيلها من قبل.
فتحت سماء أغرا بشمال الهند، يتغير لون البناء مع الوقت، في الصباح يشع بلون أبيض صاف، وعند الغروب يصطبغ بلون العنبر، وفي ضوء القمر يتوهج.
في كل عام، يأتي إليه ملايين الزوار من أنحاء العالم ليس فقط لإعجاب معماري بل لتلمس أثر قلب أحب وقرر أن يروي حكايته بالحجر. فالضريح الذي أمر ببنائه الإمبراطور المغولي شاه جهان تخليداً لروح زوجته "ممتاز محل" قبل نحو أربعة قرون من الزمان ، أصبح رمزاً عالمياً للحب والفقد، وهو اليوم أحد عجائب الدنيا السبع الحديثة، ومدرج ضمن قائمة التراث العالمي لليونسكو منذ عام 1983، بوصفه تحفة معمارية تجمع بين الفن الإسلامي والفارسي والهندي، وتجسيداً لفنون العمارة المغولية.
ألكسندر وجيسيكا، زوجان حديثان من ألمانيا، قالا لوكالة أنباء الشرق الأوسط وعيناهما تلمعان من رهبة المكان: "اخترنا أن نبدأ رحلتنا معاً من هنا، لأن تاج محل ليس فقط رمزاً للحب، بل شاهداً عليه".
في الداخل، يصمت الجميع من الرهبة، ولا يسمع سوى وقع الخطوات فوق الرخام المتلألئ وصوت حارس الضريح يشرح بهدوء.
يتكون المجمع من الضريح الرئيسي المكسو بالرخام الأبيض، وأمامه حدائق مقسمة بصرامة هندسية، وعلى جانبيه، مسجد ودار للضيوف، كل منهما متقابل كأنهما شاهدا الحكاية من بدايتها، وما زالا صامتين.
يتوسط المكان ضريح ممتاز محل، زوجة الإمبراطور شاه جهان، التي شيد لها بعد وفاتها قصيدة لا تموت..القبران الرمزيان لهما يتواجدان في القاعة المركزية، تحيط بهما سياجات منقوشة بالرخام المطعم بأحجار العقيق والياقوت لا نظير لها، فيما القبران الأصليان يرقدان تحت الأرض في عمق لا يفتح للعامة.
والآيات القرآنية بخط الثلث تزين الأقواس والقباب، محفورة بأحجار سوداء داخل الرخام الأبيض.
"وقفت أمام الضريح وقد تملكني صمت..بدا لي أن الأرواح لا تفارق الأماكن التي أحبت فيها بصدق، وأن ممتاز محل ما زالت هنا"، كلمات عبرت بها السائحة المغربية نادية عن انبهارها بأسطورة الوفاء الأبدية.
ويستقبل الضريح سنوياً أكثر من سبعة ملايين زائر، نصفهم تقريباً من السياح، في مشهد يتكرر يومياً عند البوابة الجنوبية حيث تتقاطع العدسات مع الصمت، وتتشابك الأقدام في صف يتسابقون فيه لدخول المجمع.
وتعد الهند من بين أسرع الوجهات السياحية نمواً في العالم إذ استقبلت في عام 2023 أكثر من 11 مليون سائح دولي ، وفق بيانات وزارة السياحة الهندية بزيادة مطردة مقارنة بسنوات ما بعد جائحة كوفيد..ويعد "تاج محل" أحد أكثر المواقع زيارةً داخل البلاد، ويأتي في صدارة الجولات التي تشمل "المثلث الذهبي السياحي" (دلهي – اغرا – جايبور).
خارج أسوار تاج محل المهيبة، تفتح المدينة أذرعها للزوار الذين يتوافدون من كل أنحاء المعمورة.. تمتلئ شوارع (أغرا) بالباعة بمجسمات تاج محل المصغرة.
المتاجر والبازارات كبيرة كانت أم صغيرة تصطف بإيقاع شعبي بسيط لكن بعضها يحمل في تفاصيله نسخاً دقيقة للضريح وأخرى تعرض أوشحة وعطوراً هندية وهدايا تذكارية جميعها ترمز لتاج محل، ليشعر الزائر أن المدينة كلها تعيش في حضرة الضريح.
وعلى ضفة نهر يامونا، ليس بعيداً عن الضريح، تقف قلعة أغرا أو "الحصن الأحمر"، بكتلتها الضخمة من الحجر الرملي، تطل بشرفاتها الواسعة على القبة البيضاء، كأنها تحميها.
هنا في القلعة عاش الأمبراطور "شاه جهان" سنواته الأخيرة بعد أن عزله ابنه "أورنجزيب"، وسجن في جناح يطل على "تاج محل".
القلعة، بجدرانها العالية، ومساجدها الداخلية، وبهو العرش، تكمل حكاية الحب التي بدأت في قصر وانتهت في ضريح وظلت تنبض في ذاكرة الحجر.
ماريا سائحة من إسبانيا، تقف أمام القلعة وتقول: "الأثر الحقيقي هنا ليس الجدران، بل القصة التي تقف خلفها.. قلعة (أغرا) ليست فقط جدرانا شاهدة بل قلب ما زال ينبض بالتفاصيل الصغيرة التي خلفها الحنين".
يغادر الجميع المكان وعيونهم لا تزال معلقة به، كأنهم يخشون أن تضيع التفاصيل في زحام الحياة ، فيسرعون لتسجيلها ليس بالكاميرات فقط بل بالذاكرة وبالقلب ، وعقولهم تقول أن الحب حين يكون صادقاً لا ينتهى.
ومن قلعة (أغرا) إلى الضريح، ومن الأسواق إلى القباب، تتشابك الأزمنة في مدينة لا تزال تتنفس من ذاكرة الوفاء والعهد.
ت م ش
/أ ش أ/
"تاج محل".. حين ينطق الحجر بالوفاء والعهد
مصر/تاج محل/منوعات
You have unlimited quota for this service