• ماكرون والاتحاد الأوروبي
    ماكرون والاتحاد الأوروبي


القاهرة .. تقرير: هبه الحسيني (مركز أبحاث ودراسات الشرق الأوسط)

جاءت التصريحات الأخيرة للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون حول حلف الناتو لتكشف عن عمق هوة الانقسام داخل الاتحاد الأوروبى، وتطرح على الساحة نموذجا للتحديات التي يواجهها الرئيس الفرنسي في مسيرته لقيادة القاطرة الأوروبية.
كان ماكرون قد صرح الأسبوع الماضي بأن حلف شمال الأطلسي "الناتو" أصبح حاليا في حالة "موت إكلينيكي"، منتقدا قلة التنسيق بين السياسات الأوروبية والأميركية في ظل قيادة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، فضلا عن السلوك الأحادي الذي اعتمدته تركيا، عضو "ناتو"، بتنفيذ عملية عسكرية ضد الأكراد في شمال سوريا.
وأثارت تصريحات ماكرون حول الناتو جدلا واسعا على الساحة الأوروبية حيث أنها لم تلق قبولا من قبل عدد من القادة الأوروبيين وعلى رأسهم المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل التي أكدت أن "حلف شمال الأطلسي هو الركيزة الأساسية لدفاعنا"، مشيرة إلى أنه أصبح من الضروري "تقوية قيادة الجزء الأوروبي من الحلف".
كما أكد وزير الخارجية الألماني، هايكو ماس، أنه "بدون الولايات المتحدة لن تتمكن ألمانيا أو أوروبا من حماية نفسها على نحو فعال"، وهو ما اعتبره كثيرون اعترافا صريحا بعدم قدرة أوروبا على الدفاع عن نفسها بدون الولايات المتحدة، ومحاولة ألمانية للتقرب من واشنطن وذلك على خلاف مواقف ميركل السابقة المناوئة لواشنطن خاصة في عهد دونالد ترامب.
ولم تكن تصريحات ماكرون حول الناتو سوى القشة التي كشفت مدى الانقسام الذي يسود داخل الاتحاد الأوروبي، والذي يحمل فى طياته صراعات أخرى لا يقتصر مداها على الموقف من الحلف، وإنما يمتد إلى العديد من القضايا الدولية الأخرى. كما أبرزت هذه المسألة الصعوبات التي يواجهها الرئيس الفرنسي خلال مساعيه لخلافة ميركل في قيادة الاتحاد الأوروبي.
والواقع أنه منذ وصول ماكرون إلى عرش الإليزيه في مايو 2017، وضع نصب عينيه هدف قيادة القاطرة الأوروبية انطلاقا من إيمانه بأن وجود أوروبا الضعيفة سوف يقلص دور فرنسا على الساحة الدولية. وكانت هناك عدة عوامل عززت من إمكانية تزعم ماكرون للاتحاد الأوروبي في المرحلة الراهنة، منها عوامل خارجية مرتبطة بالمجال المحيط على الصعيدين الأوروبي والدولي، ومنها عناصر خاصة مرتبطة بالسمات الشخصية للرئيس الفرنسي.
فعلى صعيد العوامل الخارجية ، تواجه أوروبا حاليا فجوة قيادة دبلوماسية حيث تراجعت مكانة ألمانيا في ضوء تزايد الضغوط الداخلية وتراجع الأوضاع الاقتصادية فضلا عن إعلان ميركل عدم الترشح لولاية جديدة عام 2021. أما بريطانيا فهي منهمكة في مأزق خروجها من الاتحاد الأوروبي والتي تحظى باهتمامها الرئيسي وصرفتها عن الالتفات لأي قضايا دولية أخرى. وتنشغل كل من إيطاليا وإسبانيا بأزماتهما الداخلية وقضايا تشكيل حكوماتهما، في الوقت الذي تفتقر فيه الدول الصغيرة في الاتحاد الأوروبي إلى المقومات التي تسمح لها بقيادة القاطرة الأوروبية.
أما على صعيد العناصر الخاصة المرتبطة بالسمات الشخصية لماكرون ، ففي ظل هذه الظروف تبدو الساحة مواتية أمام الرئيس الشاب لاستلام دفة القيادة الأوروبية خاصة أنه يتسم بسمات شخصية تساعده في لعب هذا الدور بنجاح، من أبرزها أنه من أصغر الرؤساء الأوروبيين سنا في المرحلة الراهنة وهو ما يجعله نشيطا ومتحفزا دائما للتحرك والعمل والأخذ بزمام المبادرة ، خاصة أنه يبدو القائد الوحيد الذي لديه أفكار حول السياسة الخارجية الأوروبية، كما أنه يتسم بالبراجماتية السياسية التي تجعله دائما قادرا على فتح حوار مع الأطراف المختلف معها فكريا، فضلا عن أنه يعتمد في أسلوبه على التحدث بصورة مباشرة إلى الجمهور كما فعل مع أصحاب السترات الصفراء أثناء احتجاجاتهم، وهو ما يجعل منه أكثر إقناعا.
كل ذلك ساعد ماكرون على أن يلعب دورا فعالا في العديد من القضايا الدولية، واتسمت أنشطته الدبلوماسية الأخيرة بتأثير لافت والتي كان من بينها محاولات التوسط لإجراء محادثات بين روسيا وأوكرانيا، وبين إيران والولايات المتحدة
كما تقدم ماكرون بعدة مبادرات لإصلاح الاتحاد الأوروبي من أبرزها إنشاء وكالة أوروبية لحماية انتخابات الدول الأعضاء من الهجمات الإلكترونية والتلاعب، وفرض حظر على تمويل الأحزاب السياسية من قبل قوى أجنبية، فضلا عن مقترحات لإصلاح منطقة شنغن لحرية التنقل، وإصلاح السياسات الأوروبية للمنافسة والتجارة.
ويرى المراقبون أنه على الرغم من أن الظروف تبدو مواتية لماكرون لممارسة القيادة الأوروبية غير أن الطريق لا يبدو سهلا أمام الرئيس الشاب حيث تواجهه من حين لآخر العديد من التحديات التي تعرقل مسيرته. فمن ناحية أخطأ ماكرون في قراءة علاقات بلاده مع ألمانيا ومع الدول القوية في الشمال الأوروبي، وظهر ذلك واضحا من خلال افتقار التنسيق بينه وبين القادة الأوروبين حول عدد من القضايا مثل مواقفه أحادية الجانب مع روسيا حيث تشعر الكثير من العواصم في مناطق الشمال– البلطيق ووسط وشرق أوروبا- بقلق إزاء خطط باريس الرامية إلى تحقيق تقارب مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، حيث دعا ماكرون إلى عودة روسيا إلى مجوعة الدول السبع، وإلى تجاوز الخلافات بين الغرب وروسيا، وبناء نظام آمن يتحلى بالثقة بين الجانبين، ويأتي ذلك في الوقت الذي يبلغ فيه ماكرون سكان غرب البلقان أن عليهم الانتظار لسنوات قبل تمكنهم من الانضمام الى أوروبا، وذلك بعد معارضته لإطلاق محادثات الانضمام مع كل من مقدونيا الشمالية وألبانيا.
كما اتخذ ماكرون موقفا متشدا إزاء قضية البريكست حيث بدا أنه القائد الأوروبي الوحيد الذي مارس ضغوطا قوية من أجل تقليص فترة تمديد مفاوضات خروج بريطانيا من الاتحاد الاوروبي.
من ناحية أخرى، فإن صعود اليمين المتطرف في انتخابات القارة الأوروبية، والتي كان آخرها في الانتخابات التشريعية الإسبانية الأحد الماضي، يشكل عائقا أمام الرئيس الفرنسي الشاب في تنفيذ إصلاحاته وأجندته الأوروبية، خاصه مع تصاعد أصوات تلك الأحزاب المطالبة بالانفصال عن أوروبا الموحدة والرافضة للمشروع الأوروبي بأكمله.
في ضوء المشهد السابق، يتفق المراقبون على أن ماكرون يبدو أنه الشخص الأكثر ملائمة لقيادة الاتحاد الأوروبي خلال المرحلة الراهنة، لاسيما في ظل تغير موازين القوى داخل القارة الأوروبية. ومع ذلك فإن مهمته ليست بالمهمة السهلة حيث أنه مواجه بالعديد من الصعوبات والتحديات التي تقف عائقا في طريق قيادته الأوروبية على نحو فعال، لذلك يتعين على الرئيس الفرنسي تنسيق مبادراته الدبلوماسية بصورة أوثق مع الزعماء الآخرين في الاتحاد الأوروبي والحصول على دعمهم من أجل ضمان النجاح والتنفيذ الجيد لمقترحاته، ولعب دوره كقائد على نحو مؤثر وفعال.