• الصواريخ النووية
    الصواريخ النووية


تقرير: أحمد تركي
أثارت قضية إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب اعتزام بلاده الانسحاب الأحادي من معاهدة الحد من الأسلحة النووية متوسطة المدي مع موسكو، كثيرا من اللغط والجدل والسياسي، فبعدما كان من المقرر أن يعقد الرئيسان ترامب وبوتين لقاء قمة في باريس لمناقشة القضية/الأزمة، تدخل قصر الإليزيه للإعلان عن أن اللقاء سيكون قصيرا على هامش غذاء عمل، ليتم تأجيل القمة الفعلية إلى أواخر نوفمبر الحالي، بعد تغيير وجهتها لتصبح فى العاصمة الأرجنتينية "بيونيس آيرس".
ولعل التزامن بين إعلان ترامب اعتزام بلاده الانسحاب من معاهدة الحد من الأسلحة النووية متوسطة المدي، وإعلان فرنسا إنشاء جيش أوروبي مشترك، يحمل الكثير من الدلالات والتفسيرات بشأن الأمن والاستقرار، ليس لدي واشنطن وموسكو فقط، وإنما في القارة الأوروبية.
وتعد الدعوة التي تبناها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، لإنشاء جيش أوروبي مشترك بمثابة محاولة جديدة لإنقاذ أوروبا من التحديات الكبيرة التي تواجهها، خاصة منذ وصول الرئيس ترامب إلى البيت الأبيض فى شهر يناير من العام الماضي، حيث تبنت الولايات المتحدة خطابا مختلفا تجاه حلفائها من دول المعسكر الغربي، ليس فقط بسبب حرمانهم من المزايا التجارية التي كانوا يتمتعون بها لعقود سابقة، وإنما امتد الخطاب الأمريكي فى حدته إلى الجانب الأمني، وهو ما بدا واضحا فى التلويح الأمريكي المتواتر بالتنصل من الالتزامات الأمنية تجاه أوروبا، والتهديد المتواصل بالانسحاب من حلف الناتو.
تداعيات ومآلات
ورغم التبريرات التي تسوقها واشنطن للانسحاب من المعاهدة، والرفض الروسي والأوروبي بل والعالمي لفكرة الانسحاب، إلا أن القضية برمتها لها تداعيات ومآلات بعيدة واستراتيجية، وربما تعمل على إعادة تشكيل نظام أمني عالمي جديد، ولن تقتصر تداعيات الانسحاب الأمريكي في حال حدوثه على الولايات المتحدة وروسيا فقط، فقد تمتد إلى الصعيدين الأوروبي والعالمي.
أولاً: الأمن الأوروبي: بات محل تساؤلات وتشكيك،لأنه في حال تم إلغاء هذا الاتفاق ستعاود الصواريخ الأمريكية الظهور في دول مثل رومانيا وبولندا، حيث يعتبر الاتحاد الأوروبي معاهدة التخلص من الصواريخ المتوسطة والقصيرة المدى حجر زاوية الأمن الأوروبي.
وباتت أوروبا تراقب التطورات ولو بشكل خافت ورغم أنها جزء من حلف الأطلسي الذي تتزعمه الولايات المتحدة، إلا أن الخلافات بين الناتو والرئيس ترامب برزت للسطح في أكثر من مناسبة، خاصة أن واشنطن تريد من الدول الأوروبية الأعضاء في الحلف زيادة مساهمتهم المالية وهو ما حدث في القمة الأخيرة في بروكسل.
ولعل الترقب الأوروبي له حجيته لأن أي تصعيد في سباق المنظومة العسكرية بين روسيا والولايات المتحدة له تأثير مباشر على الأمن في أوروبا خاصة أن التماس الجغرافي بين عدد من الدول الأوروبية وروسيا يحمل من النذر الكثير.
فقد زادت الحرب في أوكرانيا وسيطرة روسيا على شبه جزيرة القرم من مخاوف الأوروبيين لأسباب تتعلق بالأمن الأوروبي، ولذا فإن التشاور الأمريكي الأوروبي يعد مسألة حيوية للتنسيق حول موضوع الصواريخ النووية المتوسطة والقصيرة المدى، ومن جاءت فكرة ماكرون إنشاء جيش أوروبي مشترك.
فضلاً عن أن الصواريخ الباليستية الموجهة من قاعدة دومباروفسكي في جنوبي روسيا بإمكانها ضرب غالبية العواصم الأوروبية، ومن الطبيعي أن تستهدف روسيا أي دولة ينطلق منها اعتداء أمريكي، مما سيُجبر بعض الدول الأوروبية على تحسين علاقاتها مع روسيا حفاظا على أمنها، وهو ما سيؤدي إلى تحول الأوضاع لصالح روسيا المحاصرة أوروبيا بعد أزمة أوكرانيا وضم شبه جزيرة القرم.
ثانياً: تعدد وتنوع الحروب مع الصين: فلم تعد الحرب والمنافسة بين واشنطن وبكين قاصرة على التجارة والاقتصاد وإنما امتدت إلى الجانب السياسي والأمني، ويبدو أن التلويح الأمريكي بالانسحاب من المعاهدة هدفه الدخول في حقبة جديدة من المنافسة الاستراتيجية مع الصين عملاق آسيا والتي تنطلق بقوة خاصة على صعيد النمو الاقتصادي ووجودها المتزايد في مياه المحيط الهادي جنوب شرق آسيا والتجاذب الاستراتيجي سواء حول معاهدة الصواريخ النووية المتوسطة والقصيرة المدى سوف يستمر على الأقل خلال إدارة الرئيس الحالي ترامب والذي يريد انتهاج استراتيجية جديدة في العالم على صعيد أمريكا أولا.
ثالثاً: العودة مجدداً لسباق التسلح: فبعد خروج الولايات المتحدة من معاهدة الصواريخ المضادة للباليستية عام 2002، وعدم رغبة واشنطن في تجديد اتفاقية ستارت التي تنتهي عام 2021، والتصريح الأمريكي بالخروج من معاهدة الصواريخ المتوسطة؛ تكون بذلك كافة المعاهدات التي تحد من التسلح والتي أُبرمت لإنهاء الحرب الباردة قد ألغيت، وهو ما يعني عودة سباق التسلح من جديد.
ووفقاً لخبراء الأمن والتسلح، فإن أحد الأسباب الرئيسية التي حملت أمريكا على الإقدام على مثل هذا القرار، يكمن في استجابتها لرغبة أصحاب ومصانع تجارة السلاح، والذي لا يناسبه ثبات اتفاقيات الحد من التسلح التي تُقلّص من حجم الطلب على شراء الأسلحة على الصعيدين المحلي والعالمي.
ناهيك عن أن الانسحاب الأمريكي سوف يدفع مناطق بأكملها إلى سباق تسلح جديد، ولأمريكا مصلحة من وراء ذلك، خصوصا أن أحد أهم أسباب انهيار الاتحاد السوفيتي السابق يتمثل في الموازنات الضخمة التي كانت تُصرف لتمويل مشاريع التسلح خلال الحرب الباردة، وسوف يؤدي أي سباق تسلح جديد إلى إرهاق منافسي الولايات المتحدة الأمريكية اقتصاديا.
رابعاً: نُذر وقوع حرب نووية: إذ يخشى بعض المحللين من أن يؤدي التحلل من اتفاقيات التسلح إلى دورة من التصعيد التدريجي لن يتم السيطرة عليها إلى درجة تُفضي إلى اندلاع حرب نووية، لا سيما مع تزايد التوترات بين روسيا وحلف شمال الأطلسي في أوكرانيا وبحر البلطيق، وإعلان الولايات المتحدة لعقيدتها النووية في مطلع عام 2018، والتي تنص على تطوير قدراتها النووية المنخفضة.
وهنا لن تقف الدول الأوروبية مكتوفة الأيدي، وربما تشرع في تأسيس الجيش الأوروبي المشترك، مع العمل على تفعيل حلف الناتو، خاصة وأن الناتو وتوسعاته تمثل أحد وسائل الردع الغربية التى طالما استخدمها الغرب لتطويق النفوذ الروسى فى مناطق تنظر إليها موسكو باعتبارها عمقا استراتيجيا لها، إلى جانب كونها محيطها الجغرافى.
وبالنظر إلى حساسية العلاقات بين فرنسا من جانب وكل من الولايات المتحدة أو روسيا من جانب آخر، فإن مواقف واشنطن وموسكو تجاه العديد من القضايا الدولية لا تروق لإدارة ماكرون، وفي مقدمتها نظرتهما السلبية للاتحاد الأوروبى، وهو الأمر الذى يبدو مناوئا للتوجهات الأوروبية عامة والفرنسية خاصة.
يبقى القول إن الفترة المقبلة من خلال ممارسة كل واشنطن وموسكو لوسائل الضغط التي يراها مناسبة ومحققة لغاياته، ربما يكون الحل الأمثل وعلى ضوء تصريحات العسكريين من الطرفين أن يكون ثمة نقاشاً جاداً حول مراجعة المعاهدة وإمكانية تعديل بعض بنودها على ضوء المتغيرات الاستراتيجية والتطور النوعي في الصناعة العسكرية في البلدين.