• عقوبات إيران
    عقوبات إيران


تقرير: أحمد تركي (مركز أبحاث ودراسات الشرق الأوسط)

تثير حزمة العقوبات الأمريكية الثانية على إيران والتي وصفت بأنها الأكثر صرامة في تاريخها ، والتي دخلت حيز التنفيذ فى الخامس من نوفمبر الجاري، العديد من علامات الاستفهام حول ما إذا كانت هذه العقوبات الأمريكية ستدفع النظام الإيراني إلى التفاوض مع الولايات المتحدة أم لا، وسط أزمة اقتصادية إيرانية خانقة، حتمت على طهران اللجوء إلى خيارات غير معلومة النتائج، لتفادى تأثير العقوبات على الداخل الإيراني، لاسيما وأنها تستهدف القطاع النفطي والمصرفي.
ووفقاً لمحللين، لا تبدو العقوبات الأمريكية مجرد فصل في الصراع الأميركي - الإيراني، بل تكاد تتخذ شكل مبارزة أخيرة وحاسمة بين قوة عظمى دولية لديها كل المقومات العسكرية والاقتصادية والسياسية وبين قوة تريد أن تكون قوة عظمى إقليمياً وتضع كل مقوماتها في اختبار صعب يواصل إضعاف اقتصادها.
ويؤكد إقرار وزير العمل الإيراني محمد شريعتمداري بتأثيرات العقوبات السلبية على الاقتصاد الإيراني، حينما أشار إلى انتقادات طاولت سياسات الحكومة لمواجهة انهيار الريال الإيراني، لا سيما بعد انسحاب إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب من الاتفاق النووي المُبرم عام 2015، وإعادتها فرض عقوبات مشددة على طهران، وقال: "في تلك الأيام، كانت البلاد على حافة انهيار، وكان علينا اتخاذ هذا القرار" وأشار إلى أن إيران تعتمد عملتين بسعرين مختلفين، "الأولى للسلع الخاصة والمواد الخام والسلع الضرورية التي يحتاجها الشعب، والثانية للبضائع الأخرى"، لافتاً إلى أن "سعر العملتين يختلف عن سعر العملة في السوق الحرة".

خيارات طهران

إزاء ذلك تسلك طهران عدة خيارات للتعامل مع حزمة العقوبات الثانية، الأول فى الداخل تحاول الدولة الإيرانية تهدئة مخاوف الشارع والتهوين من تأثير العقوبات على معيشة الإيرانيين، ورغم أن الخيارات أمام طهران أصبحت محدودة للهروب من تأثيرها، إلا أنها لا تكف السعي للجوء لآلية منحها إياها الأوروبيين للالتفاف على العقوبات.
ثاني الخيارات هو العمل على عزل الولايات المتحدة، واعتبارها بلد انسحب من اتفاقية دولية سداسية الأطراف، على نحو ما قاله الرئيس الإيراني حسن روحاني، إن الولايات المتحدة معزولة وسط حلفائها التقليديين في مواجهتها مع إيران، وإن أوروبا نفسها تقف إلى جانب طهران ضد إعادة فرض العقوبات الأمريكية.
ثالث الخيارات ،هو محاولة طهران إحياء خبرات حقبة اقتصاد العقوبات، مع الاعتماد على منظومات تحاول دول صديقة ابتكارها ليس فقط لتخفيف الوطأة عليها، بل أيضاً للتعبير عن رفضها النهج الترامبي.
وفي هذه الحالة ستكون إيران دولة يعتمد اقتصادها على التهريب والسوق السوداء وتزوير البيانات، وفي حالات أخرى سيعتمد على المقايضة (نفط مقابل سلع ومعدّات) كما بالنسبة إلى الشركة الأوروبية ذات الغرض الخاص، أما الدول الثماني التي نالت إعفاءات أمريكية موقتة فإن التبادل معها سيكون بالعملات الوطنية تجنباً للدولار، أي أن إيران تستطيع إخراج النفط من موانئها من دون أن تدخل الأموال في حساباتها.
ربما تحول هذه الأساليب دون الانهيار الاقتصادي لكنها لا تمكن إيران من إنعاش عملتها أو من معالجة الاحتقان الاجتماعي، ولأن طهران لا تملك سوى خطط للاستمرار في السياسات ذاتها، فإن الأخطار ستكون مفتوحة على كل الاحتمالات.
وتتضاعف تلك التأثيرات مع حقيقة أن الأوروبيين غير المؤيّدين نهج ترامب يلتقون معه موضوعياً في ضرورة معالجة ثغرات الاتفاق النووي وضبط البرنامج الصاروخي والسياسات الإقليمية لإيران، أي أنهم يلتقون معه على أهداف العقوبات وإنْ واصلوا رفضها علناً، ينطبق ذلك جزئياً على الصين وروسيا المهتمتين بمصالحهما أولاً وحتى بدعم إيران في مواجهتها مع أمريكا، لكنهما غير معنيتين بـ "الأيديولوجية" التي تتحكم بإدارة تلك المواجهة ومآلاتها.
ورغم معارضة القوى الأوروبية إعادة فرض الإدارة الأمريكية الانسحاب من الاتفاق النووي، وإعادة فرض العقوبات على النظام الإيراني، ومواصلة علاقاتها الاقتصادية مع إيران بموجب الاتفاق النووي، واتخاذ الاتحاد الأوروبي حزمة إجراءات مضادة لحماية مصالحه الاقتصادية مع طهران، وتلافي العقوبات الأمريكية؛ فإن كثيرًا من الشركات والمؤسسات الأوروبية أحجمت عن مواصلة التعامل مع طهران خشية العقوبات الأمريكية.
ومع نجاح الحزمة الأولى والثانية من العقوبات الأمريكية في التأثير على الاقتصاد الإيراني، في وقت يواجه فيه النظام حالة من السخط الشعبي بسبب تردي الأوضاع المعيشية؛ فإن هناك انقسامًا بين المحللين حول جدوى دفع العقوبات للنظام الإيراني إلى تغيير سلوكه وسياساته وقبول التفاوض مع إدارة "ترامب" حول البرنامج النووي للدولة، ودوره الإقليمي في منطقة الشرق الأوسط.
وبينما أعلنت موسكو حزمة إجراءات لحماية الشركات الروسية من تداعيات عقوبات واشنطن على طهران، أصدر الاتحاد الأوروبي، الذي يستورد 20 في المئة من إنتاج النفط الإيراني، بياناً أكد تأييده استمرار الاتفاق النووي مع إيران طالما احترمته طهران، مع تأكيد أهمية حماية الكيانات الأوروبية التي لها تعاملات تجارية مشروعة مع إيران، وإنشاء كيان يتيح لإيران استئناف بيع النفط، يعرف باسم «الشركة ذات الغرض الخاص»، ويسجل في دولة عضو في الاتحاد الأوروبي لإدارة الأموال المدفوعة لشراء النفط وإتاحة عمليات التحويل، كما سيتم تزويده برأسمال وتحديد حوكمته بهدف تسهيل الدفع مقابل الصادرات الإيرانية.
بيد أن تفعيل تلك الآلية الأوروبية لن يبدأ قبل أوائل العام المقبل، وسط تخوف الشركات الدولية من التعرض لعقوبات أمريكية حال تعاملها من خلالها، بالتزامن مع تلبد أفق العلاقات الإيرانية الأوروبية على خلفية سعي الدنمارك والدول الاسكندنافية لحث الاتحاد الأوروبي على فرض عقوبات موحدة ضد طهران بجريرة تورطها في محاولة تصفية ثلاثة معارضين إيرانيين.. وبينما يعتقد إيرانيون أن واشنطن غير مستعدة لرفع سقف عقوباتها ضد بلادهم، خصوصاً بعدما خفّف جون بولتون من حدة لهجته التصعيدية حيالها عندما أكد أن بلاده لا تريد المس بدول صديقة، ولا تستطيع الذهاب حتى النهاية في العقوبات عبر المنع المطلق لاستيراد النفط الإيراني، اقترح وزير المال الأمريكي ستيفن ملوتشن، المعروف برغبته في تشديد العقوبات على إيران، عدم فصل الأخيرة عن نظام «السويفت» العالمي، حتى يتسنى لها شراء الأدوية والسلع الأساسية.

الرهان على الوقت
تراهن طهران على أن الموقف الأوروبي والوقت المتاح أمامها سيكون كافياً لتلافي أثار العقوبات الأمريكية، ولكن ثمة جملة عوامل تتحكم بالوقت المتاح لطهران، بدءاً بالإعفاءات التي منحتها واشنطن لثماني دول من الحظر على استيراد نفطها الخام، إلا أن تأثيرات هذا الإعفاء تنتهي خلال 6 أشهر وهدفه مزدوج: إتاحة المجال لهذه الدول أن تنفذ عقوداً سابقة، واستباق ارتفاع الأسعار العالمية في انتظار تعويض حاجة السوق العالمي نتيجة وقف التصدير الإيراني، من المصادر الأخرى.
فعامل الوقت ليس في صالح إيران كما يعتقد نظامها السياسي، خاصة أن بعض الدول الثماني خفض طلبه النفط الإيراني زهاء النصف قبل سريان العقوبات، بل الوقت هو لمصلحة واشنطن المعنية بعدم ارتفاع أسعار النفط، ما يحول دون إفادة طهران نفسها منه لإدخال عملات صعبة.
وإذا كانت طهران تراهن على إعلان تركيا بعدم التزامها العقوبات، فإن الميزان التجاري بين البلدين يميل لمصلحة أنقرة، كما أن واشنطن تملك من الآليات والأساليب الأخرى ما يمكنها من تغيير قواعد اللعبة مع طهران، إذا واكبها استعداد طهران للتفاوض حول نقطتين جوهريتين من المطالب الـ12 التي طرحها الأمريكيون: إنهاء برنامج الصواريخ الباليستية، ووقف تدخلاتها في دول المنطقة عبر أذرعها لزعزعة الاستقرار فيها.
يبقى القول إن سياسة القوة والمقاومة بين واشنطن وطهران، ستدفع الطرفين إلى محاولة التوصل إلى نقطة التقاء في المصالح على أقل تقدير، عبر جهود أوروبية وربما عربية من أجل تجنيب المنطقة أي مواجهات عسكرية لا طائل من ورائها.