• شوارع بغداد
    شوارع بغداد
  • ساحة
    ساحة "كهرمانة" وسط بغداد
  • سوق الكرادة
    سوق الكرادة
  • سوق الكرادة1
    سوق الكرادة1
  • ميدان وشارع السعدون
    ميدان وشارع السعدون


بغداد / إبراهيم رجب
رغم قسوة الوضع الأمني المختلط بالظرف السياسي الصعب في العراق وليس بعيدا عن مخططات دولية وإقليمية باتت جلية وفق سيناريوهات "الفوضي الخلاقة" التي تضرب المنطقة العربية وبدأت بأرض الرافدين، إلا أن العراقيين في بغداد يواجهون "صناعة الموت"، بوجوه تعلوها بشاشة مختلطة بقلق وتوتر باديين.. المتجول في جانب "الرصافة" بشوارع السعدون والكرادة والرشيد ، وعلي الجانب الآخر من دجلة "الكرخ"حيث المنطقة الخضراء والمنصور يلمح مشاهد شتي لأناس يعشقون الحياة التي ينغصها صوت انفجار تغلق بعده الطرق القريبة، ثم يعود البغداديون أدراجهم إلي الحياة.
قائد الطائرة يعلن الوصول إلي مطار بغداد، من السماء تبدو سحابة دخان سوداء علي أطراف المدينة يرجح أن تكون انفجارا.. تلامس عجلات الطائرة أرض المطار بسلام، ويغادر الركاب.. يتسم المطار ومحيطه بإجراءات وتواجد أمني كثيفين من قوات الجيش والشرطة العراقية الذي تسلم نقاطه الأمنية بعضها بعضا بفواصل ضيقة لا تتعدي عشرت الأمتار بينها عناصر أمنية راجلة مدججة بالسلاح ووسائل الرؤية والحماية مدعومة بمركبات عسكرية.. بعده تدلف السيارة إلي شوارع بغداد أول ما يقابلك خارج المطار ساحة "عباس بن فرناس" رائد الطيران العربي ، ثم شوارع بغداد التي تحتل ساحاتها تماثيل لشخصيات تاريخية عراقية حقيقية أو أسطورية بدا عليها التعب من كثرة ما شاهدت من نوائب الدهر والتي مثل الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003 ذروتها.
السيارة تقطع الطريق السريع إلي حي"البياع"، وتعبر الجسر إلي "الجادرية" أول ما تقع العين علي جامعة بغداد التي تستدعي تاريخا أصابه الوهن خلال السنوات العشر الأخيرة ، يستقبلك بعدها من عمق التاريخ حيث كانت بغداد حاضرة الخلافة شارع"أبو نواس" الأشهر بين شعراء العصر العباسي.

ساحة "كهرمانة" وسط بغداد
سائق السيارة خلال تجوال (أ ش أ) في بغداد بادرني بسؤال أتعرف "علاء الدين"؟ قلت نعم في أساطير بغداد، فقال "هاي مصباحه السحري" في ميدان المسرح الوطني "لا يخرج منه الجني ليلبي حاجات العراقيين وأمنياتهم.بل يصب منه الماء، وهاي شارع النضال الي بيحمل ما نتمني إلي جرة كهرمانة جارية علي بابا، ولكن الأربعين حرامي فروا من الجرات وينهبون قوت الناس".
وبحسب ما نشر في نوفمبر الماضي، استناداً إلى التقرير الذي كتبه المفتش العام لإعادة إعمار العراق ستيوارت بوين، فإن غسيل الأموال من خلال البنك المركزي العراقي تسبب في خسارة أكثر من 100 مليار دولار على مدى السنوات العشر الماضية، معظمها تسرب إلى بنوك في دبي وبيروت.
أما "السعدون" فهو شارع رئيسي علي جانب الرصافة من بغداد التي يشقها نهر دجلة وهو يمتد من ساحة التحرير حتي ساحة الفتح في الكرادة الشرقية بطول ثلاثة كيلومترات ونصف الكيلومتر ،وسمي الشارع تخليدا لاسم رئيس الوزراء العراقي عبد المحسن باشا السعدون والذي توفي في عام 1929م في ظروف غامضة ،وبه شيدت أول سينما في بغداد والعديد من الفنادق التي تلفها إجراءات أمنية مشددة وحوائط خرسانه، ولاتزال آثار التفجيرات علي واجهات المنازل المحيطة، ومن بينها البناية التي كان بها المقر القديم لمكتب وكالة أنباء الشرق الأوسط في بغداد.

السمة الغالبة في بغداد وجود نقاط أمنية "سيطرات" علي رؤس الشوارع متقاربة عديدها ترفع بشكل لافت رايات تخلد معركة تاريخية أنهت "الخلافة الراشدة" ليبدأ بعدها ملكا عضودا بعد استشهاد الحسين بن علي، رضوان الله عليه، متزامنة مع احتفالات الشيعة بالأربعينية التي تبدأ ب"عاشوراء" في العاشر من شهر محرم .. وقد شرع العراقيون الشيعة في بغداد ومحافظات العراق ومن إيران رجالا ونساء وأطفالا مسيرات زيارة كربلاء متشحين باللون الأسود حزنا علي استشهاد الحسين..."علم دولة العراق" بألوانه الأسود والأبيض والأحمر ويحمل عبارة " الله أكبر" بالخط الكوفي مصبوغا باللون الأخضر، يتواجد خجولا علي الزي العسكري لأفراد الأمن و"السيطرات" في منطقة أعلي الذراع أو علي الصدر وقليلا علي مركبات الشرطة العراقية، وتطغي عليه الرايات السود والحمر والخضر.
وفي جولة بسوق "الكرادة" الشعبي في بغداد- الذي يتشابه نسبيا مع أسواق الموسكي والعتبة والتوفيقية فى مصر - حيث تباع المفروشات ومستلزمات المطابخ وتنتشر المطاعم ومحلات الموبايل والذهب والمأكولات والأسماك الطازجة ويفترش الباعة الأرصفة ويضعون بسطاتهم أمام المحلات في غياب للبضائع العراقية وسيطرة للواردات الصينية والتركية .
وبسؤال التاجر العجوز"أبو حيدر" عن غياب المنتج المصري من المفروشات القطنية والكتان المميزة والأقل سعرا والأكثر جودة من المعروض، شكا عدم وجود خطوط تصدير مباشرة مع العراق وقال"ما يصل يكون عن طريق ميناء العقبة الأردني، والتفت متسائلا بنبرة فيها شجون "كان يعمل عندي ولد مصري منذ الخمسة وثمانين وله مائة دولار وسافر وانقطع الاتصال معه وبدى أعطيها له ممكن توصلونها؟".. وأضاف :كان عندنا معامل"مصانع صغيرة" أغلقت بسبب ما يمر به العراق منذ سنوات.
وغير بعيد من "أبو حيدر: يوجد محل للموبايل ما أن دخلناه وسلمنا علي صاحبه الذي كان بشوشا قائلا " الله بالخير... عيني" ، انقلبت بهجة التاجر توترا قائلا "الله يستر"، ورد بهدوء هذا صوت عبوة ناسفة، هز انفجارها زجاج المحل دون خسائر، خرجنا إلي الشارع الحركة طبيعية للمارة وزحام للسيارات بعد غلق المنطقة القريبة من الانفجار وتحويل الطريق"، عودنا إلي الداخل ليواصل البائع حديثه شاكيا انهيار البنية التحتية وسوء حالة شوارع بغداد ومرافقها، وقارن العاصمة النظيفة الجميلة الراقية في السبعينيات والتي كانت تبادر إلي كل حديث، وما وصلت إليه الأوضاع من ترد ضرب كافة المناحي.. قطع حديثنا صوت انفجار ثان خافت لبعد المسافة واصلنا بعده حديث البيع والشراء.. قابلت تاجر أدوات كهربائية ثالث يأمل في تنشيط الاستيراد من القاهرة التي زارها قبل أيام وامتدح شواطيء شرم الشيخ.
عبرنا الجسر في سيارة إلي "الكرخ" علي الجانب الآخر من نهر "دجلة"، حيث تكثيف أمني مشدد ونقاط سيطرة متقاربة وقوا ت راجلة ومحمولة علي مركبات مصفحة علي مداخل المنطقة الخضراء الراقية التي تحوي البعثات الدبلوماسية ومقارا حكومية عراقية ومجلس النواب ومتنزهات، وفي طريق العودة إلي جانب "الرصافة" من نهر دجلة تم تحويل الطريق ومنع المرور بأحد الشوارع بشكل مفاجىء وبسؤال شرطي المرور أجاب "أكو انفجار عبوة لاصقة"، واستدار الشرطي ليحول اتجاه سير السيارات إلي منطقة آمنة ، توترت الأجواء وزاد الزحام ثم عادت الحياة إلي طبيعتها بمرور الوقت والابتعاد عن المكان.
في اليوم التالي كان وجه آخر لبغداد عند بلوغ شارع الرشيد المؤدي إلي ساحة المتنبي، وهو شارع يضيق بزحام المارة من شباب ومثقفين وفنانين وشعراء وكاميرات الفضائيات العراقية الكل يروم لزيارة الشاعر أبي الطيب المتنبي، تملأ صدرك عند رؤية الكتب القديمة والمطبوعات الحديثة والطريق الضيق وسط مبان تراثية عبق التاريخ، يلتقي المثقفون ويتنافس الشعراء قريبا من تمثال المتنبي الذي يرنو من جانب "الرصافة" علي شط دجلة إلي "الكرخ" وخلفه تقف ساعة "القشلة" ومبني أثري وصفه عراقيون من زوار المتنبي بانها يعود إلي فترة"الاحتلال العثماني".
يذكر أن "ساعة القشلة" تحتل قمة برج عال على غرار المنائر أيام حكم العثمانيين وارتبط تاريخ الساعة ببناء القشلة - الثكنة العسكرية وسراي الحكومة فيما بعد - .. ويشير الباحث في التراث العراقي السيد رجب عبد الله إن لفظة "القشلاغ" تعني المكان الذي يسكنه الجنود العثمانيون ، وبمرور السنين حرف اللفظ ليصبح "القشلة.. وأنشأ هذا المكان والي بغداد محمد نامق باشا سنة 1850م واستكمله الوالي مدحت باشا.. الذي شيد ساعة القشلة ذات الأربعة أوجه وبنى لها برجاً يبلغ ارتفاعه قرابة 23 متراً لإيقاظ الجنود وإعلامهم بأوقات التدريب العسكري.. وقد شهدت ساحة القشلة تتويج أول ملك للعراق في العصر الحديث وهو الملك فيصل الأول بن الحسين في 23 أغسطس سنة 1921م.
وكانت ساعة القشلة أعجوبة إذ لم ير البغداديون ساعة توضع فوق منارة بهذا الارتفاع وبأربعة أوجه وفي قمتها مؤشر حديدي يوضح اتجاه الريح، وأربعة اسهم مكتوب على أطرافها الحرف الأول للاتجاهات وباللغة الانجليزية، إذ كانت أغلب ساعاتهم ذات سلاسل توضع في الجيوب.
استرحت قليلا مع كوب من عصير الرمان الطازج مع صحبة من إعلاميين عراقيين..رأيت صورة مطرب العرب العراقي كاظم الساهر مرفوعة في نهر شارع المتنبي مع تنويه بأحدث ما غني.. امتزج في فمي مع رشفات الرمان صوت كاظم الثائر بكلمات الشاعر فاروق جويدة " بغداد لا تتألمي ... أطفال بغداد الحزينة يسألون عن أي ذنب يقتلون يترنحنون علي شظايا الجوع ... يقتسمون خبز الموت ثم يودعون ...الله اكبر من دمار الحرب يا بغداد والزمن البغيض الظالم... الله اكبر علي سماسرة الحروب علي الشعوب وكل تجار الدم... بغداد لا تتألمي أنت أنت في دمي".
مع تنفس صبح اليوم الثالث في بغداد، بزغ أمل جديد تجسد في همة طفلين يضربان الأرض سعيا إلي المدرسة المليء طريقها بالحفر وتراكمات المياه الآسنة يتلمسان طريقهما في إصرار وهمة ، صبوح الوجه ابنة العاشرة ربيعا تتجاذب حديثا عن المدرسة مع شقيقها ذو الملامح الجادة التي تفيض براءة، رميا بهموم الأهل من أجل مستقبل وطن يحلمون أن يجمع الفرقاء من جديد في حاضرة الخلافة(بغداد).
ارم
/أ ش أ/